من أخلاق الناجين.. محاسبة النفس

ما
أسرع انقضاء الأيام، وما أسرع مرور ليالي العمر وانفلاتها من بين يدي الإنسان،
يأتي الشباب فيلهو ويغتر، ويطول به الأمل وكأنه مخلد في هذه الحياة، ثم يُفاجأ تحت
ملاهي الدنيا أن الصحة قد ذهبت، وأن الجمال قد بَلِي، وأن المتبقي من العمر قليل
دون أن يستثمر قِصَر الأيام وسرعة السنوات في النجاة بنفسه من غضب رب العالمين،
يقول رب العالمين في تلك الرحلة القصيرة: (اعْلَمُوا
أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ
وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ
الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا
ۖ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۚ
وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) (الحديد:20)، وقال
تعالى: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ
الْمَقَابِرَ) (التكاثر:1-2)، يُفاجأ العبد أن الظهر قد انحنى ولم يعد
قادرًا على الركوع والسجود، وأن الجسد قد وهن، ولم يعد قادرًا على الصيام، وأن
البصر قد ضعف، فلم يعد قادرًا على رؤية المصحف للقراءة فيه.
ذنوب كثيرة تثقل كاهله، وهو إن لم يكن قاصدًا المعصية، فقد وقع فيها يومًا رغمًا عنه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا، أدرك ذلك لا محالة، فزنا العين النظر، وزنا اللسان المنطق، والنفس تمنَّى وتشتهي، والفرج يصدِّق ذلك كله ويكذبه» (رواه البخاري)، وقول النبي عليه الصلاة والسلام: «كل ابن آدم خطَّاء، وخير الخطائين التوابون» (رواه الترمذي)، فـ(كل) تفيد عموم وقوع الخطأ والذنب من بني آدم؛ وقوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: «يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعًا، فاستغفروني أغفر لكم» (رواه الترمذي)، فنسب الخطأ إلى العباد، فكل هذا يلزمه توبة، والتوبة يلزمها محاسبة ومراقبة قبل فوات الأوان، وقبل أن ينقضي العمر فيطبع الله على صدره بالكذب والخيانة والذنوب التي لا يكفيها مجرد الندم، والكَيِّس الفَطِن هو من يدرك حاله في أوانه، فيظل قلبه ناصع البياض، تغلفه سكينة الإيمان والاطمئنان لجنب الله، وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الكيس من دان نفسه، وعمِل لِما بعد الموت» (رواه الترمذي)، فما هي المحاسبة؟ وما هي أهميتها؟ وما هو مردودها على الفرد المسلم؟
مفهوم مصطلح المحاسبة
المحاسبة
لغة: «مصدر حاسب يُحَاسِبُ، وهو مأخوذ من مادة (ح س ب) التي تدل على العد، تقول:
حسبت الشيء أحسبه حسبًا وحُسْبانًا، وحسابًا وحِسابة إذا عددته، وحاسبته من
المحاسبة، وشيء حساب أي كاف، ومنه قوله تعالى: (عَطَاءً
حِسَابًا) أي كافيًا، وفي قول الله تعالى: (وَاللَّهُ
يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) أوجه عديدة منها: أنه يعطي المؤمن
ولا يحاسبه عليه، ووجه ذلك أن المؤمن لا يأخذ من الدنيا إلا قدر ما يجب، وكما يجب،
وفي وقت ما يجب، ولا يُنفق إلا كذلك، ويحاسب نفسه فلا يحاسبه الله حسابًا يضره كما
روي: «من حاسب نفسه في الدنيا لم يحاسبه الله يوم القيامة»، وقوله تعالى: (وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ)، أي حسابه واقع لا
محالة، وكل واقع فهو سريع، وسرعة حساب الله، أنه لا يشغله حساب واحد عن محاسبة
الآخر) (1).
محاسبة
النفس اصطلاحًا: «أن يَتَصَفَّحَ الْإِنْسَانُ فِي لَيْلِهِ مَا صَدَرَ مِنْ
أَفْعَالِ نَهَارِهِ فَإِنْ كَانَ مَحْمُودًا أَمْضَاهُ وَأَتْبَعَهُ بِمَا
شَاكَلَهُ وَضَاهَاهُ، وَإِنْ كَانَ مَذْمُومًا اسْتَدْرَكَهُ إِنْ أَمْكَنَ،
وَانْتَهَى عَنْ مِثْلِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ) (2).
والمحاسبة
نوعان، نوع قبل العمل، ويلزم المسلم فيه أن يقوم بالعمل الصالح، بنية صالحة، فلا
عمل مقبول ولو كان صالحًا إن كانت النية فيه لغير الله تبارك وتعالى، وكذلك يلزم
المسلم قبل الشروع في العمل أن يتخير الأكثر أولوية في ذلك الوقت، فلا يقوم بصلاة
النافلة، بينما بيت جاره يحترق، عليه أن يوازن بين أولوياته وعباداته واحتياج
المسلمين من حوله.
وأما
النوع الثاني، فهو المحاسبة بعد العمل، فعليه أن يراجع فيه إخلاصه، ومراقبة مواطن
القصور فيه ليتم نقصانه.
وقد
ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله أن محاسبة النفس تكون كالآتي (3):
1. أولًا: البدء
بالفرائض، فإذا رأى فيها نقصًا تداركه.
2. ثانيًا: ثم المناهي،
فإذا
عرف أنه ارتكب منها شيئًا، تداركه بالتوبة والاستغفار والحسنات الماحية.
3. ثالثًا: محاسبة
النفس على الغفلة، ويتدارك ذلك بالذكر والإقبال على الله.
4. رابعًا: محاسبة النفس على حركات الجوارح، كلامِ اللسان، ومشي الرجلين، وبطش اليدين، ونظر العينين، وسماع الأذنين، ماذا أردت بهذا؟ ولمن فعلته؟ وعلى أي وجه فعلته؟
ثمرات المحاسبة ونجاة أصحابها يوم القيامة
1. المحاسبة اليومية للنفس على كل عمل تجعل
المسلم في حالة طهر مستمرة، كمن يقوم بتطهير ثوبه بشكل يومي، فالمحاسبة اليومية
ضمانة للتوبة المتجددة وإصلاح النفس على الدوام، فلا صلاح للنفس إن لم يعلم
الإنسان عيبه ويعترف به.
2. محاسبة النفس دليل على معرفة حق الله تبارك
وتعالى وعظمته.
3. المحاسبة نوع من الانكسار والتذلل بين يدي
الله، وهو من أسمى أنواع العبودية له سبحانه.
4. المحاسبة هي الطريق الأقصر في مقاومة العُجب
والرياء وسلامة القلب، وذلك بمعرفة قدر النفس وضعفها.
5. المحاسبة اليومية مدعاة للاجتهاد في الطاعة،
ورد الحقوق إلى أهلها، ومحبة الله تبارك وتعالى.
عَنْ
حَنْظَلَةَ الْأُسَيِّدِيِّ وَكَانَ مِنْ كُتَّابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم قَالَ: لَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ كَيْفَ أَنْتَ يَا حَنْظَلَةُ قَالَ
قُلْتُ نَافَقَ حَنْظَلَةُ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ مَا تَقُولُ؟! قَالَ قُلْتُ
نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ
وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ
وَالضَّيْعَاتِ فَنَسِينَا كَثِيرًا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَوَاللَّهِ إِنَّا
لَنَلْقَى مِثْلَ هَذَا فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ حَتَّى دَخَلْنَا
عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُولَ
اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَمَا ذَاكَ؟ قُلْتُ يَا
رَسُولَ اللَّهِ نَكُونُ عِنْدَكَ تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى
كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ
وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ نَسِينَا كَثِيرًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا
تَكُونُونَ عِنْدِي وَفِي الذِّكْرِ لَصَافَحَتْكُمْ الْمَلَائِكَةُ عَلَى
فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ، وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً ثَلَاثَ
مَرَّاتٍ) (رواه مسلم).
معينات تدفع النفس على المحاسبة
وكل
إنسان يحتاج لدافع يساعده على ثِقَل العبادة خاصة في بدايتها، ومن تلك المعينات
على محاسبة النفس:
1. استحضار رقابة الله عز وجل ومعيته واطلاعه
على مكنون صدره.
2. استحضار صورة القيامة والعرض على الجبار،
والمحاسبة اليومية تقلل من شدة الحساب يوم القيامة.
3. صحبة الصالحين والعلماء، والاطلاع على سير
الصحابة والصالحين من أهل السلف، وحضور مجالس الذكر والعلم.
4. زيارة القبور والتأمل في مآل الإنسان وأن
الموت هو النهاية الحتمية لكل حي.
5. إجبار النفس على الإقبال على الطاعة من
تلاوة للقرآن، وقيام لليل، والسعي لقضاء حوائج الناس.
6. الاجتهاد في رد الحقوق إلى أهلها، والاجتهاد
كذلك في البعد عن مظالم العباد، فالله عز وجل لا يسامح فيها حتى يتم ردها.
وعن
موعد المحاسبة اليومية يقول ابن القيم: «ومن أنفعها أن يجلس الرجل عندما يريد
النوم لله ساعة يحاسب نفسه فيها على ما خسره وربحه في يومه، ثم يجدد له توبة
نصوحًا بينه وبين الله، فينام على تلك التوبة، ويعزم على ألا يعاود الذنب إذا
استيقظ، ويفعل هذا كل ليلة، فإن مات من ليلته فعلى توبة، وإن استيقظ استيقظ
مستقبلًا للعمل مسرورًا بتأخير أجله حتى يستقبل ربه، ويستدرك ما فاته، وليس للعبد
أنفع من هذه النومة» (4).
فلتكن
المحاسبة دَيْدَن المسلم وعادته اليومية، وصدق عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين
قال: «حاسِبوا أنفسَكم قبل أن تُحاسَبوا، وزِنوا أنفسَكم قبل أن تُوزنوا، فإنَّه
أخفُّ عليكم في الحسابِ غدًا أن تُحاسِبوا أنفسَكم اليومَ وتزيَّنوا للعَرضِ
الأكبرِ، يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَة» (رواه أحمد في
الزهد).
________________________________
المصادر
والمراجع:
(1)
د. عمر عادل بصفر تحت عنوان مفهوم محاسبة النفس وأنواعها.
(2) المصدر السابق.
(3) إغاثة اللهفان لابن القيم 1/83.
(4)
الروح لابن القيم ص 186.