من هنا يبدأ التغيير

في العشر الأخيرة من رمضان يعظم العطاء وتتأهب النفوس للارتقاء، ويتسابق العارفون بالفوز، ويتنافس السالكون على أبواب العطايا ليكرموا بنفحات الهداية، فيهرع بعضهم إلى الاعتكاف في المسجد مقتدياً بالنبي صلى الله عليه وسلم، وبعضهم إلى محراب صلاته وتهجده وتفكره وإخباته، ولو أدرك المتنافسون أنهم يصنعون من محرابهم التغيير في العالم كله لما توقفوا عن السباق دقيقة، ولما تسلل إليهم الملل لحظة.

مفتاح التغيير في داخلك

إن مفتاح التغيير في العالم يبدأ من هنا، يبدأ من إدراكك لمهمتك، يبدأ بتعرفك على غايتك، يبدأ بسماعك لصوت روحك التي تستصرخك ليل نهار لتخليصها من تحت تلال المعاصي وتطلعات البدن وركام الشهوات والرغبات؛ (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ {11} وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ {12} فَكُّ رَقَبَةٍ) (البلد).

ولا أعلم رقبة في حاجة إلى فكاك أكثر من رقبتك، ولا تحريراً أعظم أجراً من تحرير روحك من سجن العبودية للدنيا وشهواتها.

هنا المصحة الربانية

وهنا، في العشر، مصحة ربانية للشفاء من علل النفوس وقسوة القلوب واضطراب الرؤى وتعثر الأقدام، والغفلة عن المصير المحتوم، والموعد المبرم، واللقاء الجازم، والعرض الكاشف، والجزاء القاطع.

هنا الفرصة سانحة لمراجعة نفسك، واكتشاف عوجها، فتأخذ قراراً جازماً بمعالجتها، وهجر أسباب دنسها، والعزم الجاد على بذل كل جهدك لتزكيتها، فمثقال ذرة من الكبر يحجبك عن الجنة، والقليل من المشاحنة يحجب عنك المغفرة، فالقليل من المحاسبة أهم من كثير من بعض العبادات.


عن وقفة محاسبة النفس ختام كل عام |  مجلة المجتمع الكويتية
عن وقفة محاسبة النفس ختام كل عام | مجلة المجتمع الكويتية
 ترتبط بداية كل عام ونهايته من ضمن ما ترتبط ب...
mugtama.com
×


هنا يقظة الفكر

هنا في العشر، ليست محلاً للصلاة والقيام والتهجد فحسب، بل هنا مكان لإيقاظ الفكر بمعزل عن الإشغالات الخارجية، والتطلعات الدنيوية، وإن يقظة الفكر تجعل للقرآن أثراً، حتى إن آية واحدة يقدر لها أن تنزل إلى قلبك تحدث فيه المعجزات، فتحيي مواته، وتضيء جوانبه.

إن يقظة الفكر تحول الصلاة من مجرد ركعات معدودات إلى ارتقاء في المناجاة، يصعد بالعبد إلى مقام اليقين المشهود، إن يقظة الفكر تعيد لكل عبادة روحها المفقودة، ولكل عمل سر قبوله، وللقلب سر حياته.

ساحات التجلي

هنا موطن العطاء وساحة الإكرام والارتقاء، حيث تتعرض لنفحات الكريم في المواطن التي يحبها، وتقتدي بمن تعبدوا لله فيها من قبلك، فمنّ عليهم بنعمة الاصطفاء، ومنحهم درجة الاجتباء، فيا سعادتك إن دخلت مدخلهم، وحظيت بمثل مكرمتهم! هنا سبب الأسباب وفوق الأسباب، حيث كان زكريا في ذروة روحه المتألقة بالإيمان، حين تنسى الأسباب المفقودة وينادي الرب القريب: (هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ) (آل عمران: 38)، ولما عاد إلى محرابه جاءته البشرى: (فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـى) (آل عمران: 39)، وكان قد عاد من هنالك إلى عالم الأسباب فتساءل متعجباً: (أَنَّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ) (آل عمران: 40)، فكانت التذكير بما هو أعظم نعمة من الله الذي خلقك من دون أسباب: (قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) (مريم: 9).

هنا الاصطفاء

أنت هنا حيث كانت مريم في عزلتها تناجي ربها وتكتشف روحها في وثيق علاقتها بخالقها وسيدها، فتضلعت من كأس المحبة حتى نالت المقام الذي لم تصل إليه امرأة على مدار العصور كلها، إنه مقام الاصطفاء: (إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ) (آل عمران: 42)، وكانت الوصية الربانية لها بالاستمرار في محراب التجلي: (يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) (آل عمران: 43)، وفي كهف تعبدها ومحراب تنسكها وعزلتها يغنيها سيدها عن الأسباب، فيأتيها رزقها بكرة وعشياً، قال تعالى: (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَـذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ) (آل عمران: 37).

وعطاياه في المحاريب ليست أرزاقاً مادية فحسب، بل إن ما يفتحه الله تعالى من خزائن علمه لعباده لا يخطر لأحد على بال، وليس هناك نعمة أنعم من أن يذيق عبده لذة مناجاته؛ فيصير أغنى الخلق به، وأعز الخلق به، وأسعد الخلق به، حتى لا يكون له شوق كشوقه إلى ساعة اللقاء ويوم الفكاك.

هنا كهف الرحمات 

اعتزل فتية الكهف قومهم باحثين عن رحمة ربهم آنى وجدت حتى ولو كانت في كهف مظلم، قال تعالى على لسانهم: (فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته) (الكهف: 16).

ففي كهفك أفرغ ما في جعبتك، وتخلص من تطلعات طالما أشقتك، وذنوب طالما حجبتك، وهموم طالما أغلقت بابك، وتبرأ من حولك وقوتك، وارتد إزار الافتقار، ورداء المسكنة بين يديه، يفتح لك باب الغنى به، ويجعل لك فرقاناً في كل أمر من أمورك ومسلك من مسالكك، ويخلصك من حظ نفسك، ويفتح لك باباً على ساحات التوفيق والرشاد والسداد والبصيرة.   

هنا تغيير العالم

من هنا يتغير العالم؛ فشعارك في تلك العشر ينبغي أن يكون: كنت فيما مضى أحاول أن أغير العالم، أما الآن وقد لامستني الحكمة، فلا أحاول أن أغير شيئاً سوى نفسي! فإن تغيرت نفسي تغير العالم، هكذا قال الله تعالى في قانون قرآني راسخ لا يتغير ولا يتبدل: (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد: 11).

لذا، فإنك هنا لا بد أن تعلنها ثورة جارفة قاطعة على نفسك التي لم يؤذك أحد كما آذتك، ولم يضيق عليك أحد كما ضيقت عليك، ولم يحرمك أحد من العطايا كما حرمتك هي، فعليك اليوم أن تعلنها ثورة عليها، وأن تعتقل شياطينك كي لا تعود لمهاجمتك، والعمل على إخراجك من جنة القرب وروضة التجلي وطمأنينة الذكر.


في رمضان.. ابحث عن نفسك تجد ربك |  مجلة المجتمع الكويتية
في رمضان.. ابحث عن نفسك تجد ربك | مجلة المجتمع الكويتية
يظنُّ عامة المسلمين أنَّ الصيام مجرد إمساك عن شهوت...
mugtama.com
×


هنا ليلة القدر

هنا ابحث عن ليلة القدر في موطنها الصحيح، وموطنها ليس في الكون والأجواء فحسب، بل ابحث عن علاماتها في داخلك أيضاً، فمن علاماتها فيك أن يشرق الإيمان في نفسك على صورة أبرز من إشراق شمسك، فلا تبحث عن ليلة القدر في طلوع شمسك، ولكن ابحث عنها في سكون نفسك، وطمأنينة قلبك، وحسن إقبالك عليه، وشوقك للقائه، ومحبتك لأوليائه، واستقامتك على أمره، وبغضك لمعصيته، وانشراح صدرك لآياته، والاستغناء به عن سائر مخلوقاته.

ومن علاماتها أن تنظر طويلاً متأملاً في علاقتك بخلق الله تعالى، فتراجع كسبك وإنفاقك، وتسارع بتخليص ذمتك من حقوق الخلق عليك؛ فإن ثمن مسواك أو قلم كفيل بأن يحرمك من دخول الجنة.

ومن علاماتها فيك أن يفتح لك الله باب الاستعمال، فتنطلق في طاعته؛ لتكون حياتك كلها ليلة قدر، ومن آيات ذلك أن يرزقك الله تعالى ساعة تقفها في سبيله، فتنال بها أعظم ما يمكن أن يناله عابد في ليلة القدر، ففي الحديث: «موقف ساعة في سبيل الله خير من قيام ليلة القدر عند الحجر الأسود» (أخرجه البيهقي، وصححه الألباني).

ومن مظاهر فتحه لك في ليلة القدر أن يكرمك بشرف الحراسة ليلة في سبيله، حراسة لدينه وحرماته ومقدساته، ففي الحديث: «ألا أنبئكم بليلة أفضل من ليلة القدر؟ حارس يحرس في أرض خوف لعله لا يرجع إلى أهله» (أخرجه الحاكم على شرط البخاري).

ومن علاماتها فيك أن تجد في نفسك فائض شفقة على عباده، يجعلك تسعى ليل نهار في إخراجهم من الظلمات إلى النور، مستخدماً كل وسائلك المتاحة لاسترشادهم شفقة عليهم ورحمة بهم، مقتدياً في ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي وصفه الله تعالى بقوله: (لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) (التوبة: 128).

إن التغير الحقيقي في سلوكك وأخلاقك وإقبالك على ربك هو دلالة الخير الحقيقي الذي حل بساحتك، فأطل التأمل فيما أحدثت من تغيير، وما قصدت من ترق، وراقب أثر ذلك في باطنك، ساعتها ستعرف أن ليلة القدر هي ليلة التغيير ومفتاح الاستعمال وفتح أبواب العون والتوفيق، عرفت فالزم.


الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة