العدل.. قيمة مفقودة في زمن الاستقطاب

في زمنٍ يطغى فيه الاستقطاب، وتذوب فيه
الحقيقة في بحر الروايات المتضاربة، تبرز قيمة العدل كمنارة أخلاقية تكاد تخبو وسط
الضباب، فالعدل من أعظم القيم التي جاء بها الإسلام، وهو الضامن الأساسي لتوازن
المجتمعات وأمنها، وتزداد الحاجة إليه اليوم مع تحول ساحات النقاش من وسائل
التواصل والمجالس الخاصة إلى ميدان للصراع الفعلي، فيُختزل الطرف الآخر في عدو يجب
تحطيمه، لا خصمٍ يُبحث معه للوصول إلى الحقيقة؛ ولذا وجب التذكير بأهمية العدل
وقيمته وآثار غيابه.
اسم الله «العدل» وأثره في حياة المسلم
«العدل» من أسماء الله الحسنى، فهو
سبحانه الموصوف بالعدل المطلق في قضائه وقدره وشرعه، وقد حرّم الظلم على نفسه، وإن
هذا الاسم الإلهي يضع للمسلم منهجاً حياً، فكما أن الله عادل، فإنه يجب على المسلم
أن يتخلق بالعدل في كل شؤونه، فيعدل مع نفسه وأهله وجيرانه، وحتى مع خصومه، فلا
يحمله الهوى أو الكره لخصم على الظلم، وهكذا يتحول الإيمان من عقيدة داخلية إلى
سلوك عملي يترجمه المسلم في كل موقف يحتاج فيه إلى الإنصاف.
مفهوم العدل في الخصومة
لقد كثر ورود كلمة «العدل» ومشتقاتها في
القرآن الكريم، ويدور مفهومه حول الحكم بالحق، وإعطاء كل ذي حق حقه، وهو نقيض
الظلم، أما حين يأتي في سياق الخصومة، فيعني الالتزام بالإنصاف والصدق، وهذا يشمل
التحري في نقل الأقوال، والحكم على الفكرة قبل الحكم على الشخص، فكثيرون اليوم إذا
دخلوا في نزاع مالوا مع الهوى والتعصب، محاولين كسب التأييد ولو بظلم الخصم، وقد
أمر الله بالعدل حتى مع من نكره، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ
لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ
أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ) (المائدة: 8).
قيمة العدل في الخصومة وآثار غيابه
العدل عماد الاستقرار الاجتماعي، وحجر
الأساس لبناء الثقة بين أفراد المجتمع، وعندما يسود؛ يسود معه امتثال أمر الله
تعالى، فإنه عبادة يؤجر عليها المسلم، وبه تحفظ الحقوق؛ فإن الشرع قد جعله صمام
أمان يحفظها من الضياع، وبه تقام الشهادة لله بالحق، وإنه إقرار لله بالتزام الحق،
وبه يتحقق السلم المجتمعي؛ فحين يسود العدل تقل النزاعات وتزول الأحقاد مما يزيد
الاستقرار، وهو سبب للقرب من التقوى؛ كما قال الله تعالى: (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (المائدة:
8)، وبه تحصل تنمية القدرات واستغلالها؛ فإنه يخلق بيئة آمنة للإبداع
وتبادل الرأي من خلال الحوار البناء والتنافس الإيجابي.
وعندما يغيب العدل تكون الآثار كارثية؛
فينتشر الظلم والفساد، ويؤذن ذلك بخراب العمران وزوال البركة، قال شيخ الإسلام ابن
تيمية: «إِنَّ النَّاسَ لَمْ يَتَنَازَعُوا فِي أَنَّ عَاقِبَةَ الظُّلْمِ
وَخِيمَةٌ وَعَاقِبَةُ الْعَدْلِ كَرِيمَةٌ وَلِهَذَا يُرْوَى: أن اللَّهُ
يَنْصُرُ الدَّوْلَةَ الْعَادِلَةَ وَإِنْ كَانَتْ كَافِرَةً وَلَا يَنْصُرُ
الدَّوْلَةَ الظَّالِمَةَ وَإِنْ كَانَتْ مُؤْمِنَةً»(1).
وتتفكك الروابط الاجتماعية؛ فالظلم يولد
الأحقاد ويزرع الضغائن ويزيد من هوة الاستقطاب والتفرق، وتكثر الجرائم وتنتشر
الفتن؛ فعندما يُظلم الناس ينفتح باب الانتقام، فيلجؤون لأخذ الحقوق بأيديهم، مما
يشيع الفوضى، وتتوقف التنمية وتضعف الأمة، فالأمة التي يسودها الظلم تفشل في تحقيق
نهضتها؛ لأن الناس ينشغلون بالخصومات بدلًا عن البناء.
كيف حملت الشريعةُ النفوسَ على العدل
جاءت الشريعة الإسلامية لهداية البشر
وتزكية نفوسهم وتربيتها على العدل من خلال:
- الأمر المباشر: فقد أمر الله تعالى
بالعدل أمرًا عامًا يشمل كل ميادين الحياة، فقال سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ) (النحل:
90)، فجعل العدل قاعدة عامة تشمل جميع العلاقات.
- التجرد من الهوى: تهذيب النفوس على
التجرد للحق ومنع أسباب الظلم من أساسها، فقال الله تعالى: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا
وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) (الأنعام: 152)، ليدرب النفوس على التحرر من
الأهواء.
- مخالفة طبيعة النفس البشرية: لا سيما
عند الخصومة، قال الله تعالى: (وَلَا
يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ
أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (المائدة: 8)، ليؤكد أن العدل ميزان الحق حتى مع
الأعداء.
- الترهيب من الظلم: فإن الوعيد الشديد
على الظلم يردع النفس عن ارتكابه مهما كانت دوافعها، قال النبي صلى الله عليه وسلم:
«اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة»(2).
- الترغيب في الثواب: قال النبي صلى الله
عليه وسلم: «إنَّ المُقْسِطِينَ عِنْدَ اللهِ علَى مَنابِرَ مِن نُورٍ، عن يَمِينِ
الرَّحْمَنِ عزَّ وجلَّ -وكِلْتا يَدَيْهِ يَمِينٌ- الَّذِينَ يَعْدِلُونَ في
حُكْمِهِمْ وأَهْلِيهِمْ وما وَلُوا»(3).
التطبيق العملي للعدل من السُّنة النبوية
سيرة النبي صلى الله عليه وسلم هي
النموذج الحي الذي لا نظير له في تطبيق العدل، ومن ذلك:
1- قصة أسيد بن حضير:
وذلك أنه رَضِيَ اللهُ عنه كان رجُلًا
ضاحكًا مَليحًا، وبينما هو يحدِّث القومَ، وكان فيه مزاحٌ، بينا يُضحُكهم، فطعنه
النبيّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ في خاصِرته بعودٍ، فقال: أصبِرني، فقال: «اصطبر»،
قال: إنَّ عليك قميصًا وليس عليَّ قميصٌ، فرفع النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ
عن قميصِه، فاحتضنه وجعل يقبِّل كشحَه، قال: إنما أردتُ هذا يا رسولَ اللهِ(4).
فهذا التطبيق للعدل حتى على النفس، دون
محاولة للتملص من تطبيقه بحجة أن الأمر مزاح، أو أنه قائد وأعلى رتبة من الجنود،
وهذا ما يدفع المسلم للتواضع وتطبيق العدل فمهما وصل من مكانة وشرف، فلن يكون
المرء بحال مثل أشرف الخلق الذي لا ينطق الهوى صلى الله عليه وسلم.
2- قصة المرأة المخزومية:
وذلك أنَّ قُرَيْشًا أهَمَّهُمْ شَأْنُ
المَرْأَةِ المَخْزُومِيَّةِ الَّتي سَرَقَتْ، فَقالوا: ومَن يُكَلِّمُ فِيهَا
رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؟ فَقالوا: ومَن يَجْتَرِئُ عليه إلَّا
أُسَامَةُ بنُ زَيْدٍ، حِب رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَكَلَّمَهُ
أُسَامَةُ، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «أتَشْفَعُ في حَدٍّ
مِن حُدُودِ اللَّهِ؟!»، ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ، ثُمَّ قالَ: «إنَّما أهْلَكَ
الَّذِينَ قَبْلَكُمْ، أنَّهُمْ كَانُوا إذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ
تَرَكُوهُ، وإذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أقَامُوا عليه الحَدَّ، وايْم الله لو
أنَّ فَاطِمَةَ بنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا»(5).
وفيه توجيه لخطورة الظلم وأنه يؤدي لهلاك
الأمم، وأهمية قطع الأسباب الموجهة إليه، مثل الميل لهوى أو عصبية قبلية أو
استغلال لنفوذ أو قوة أو مكانة، والتمسك بالعدل الذي أمر الله تعالى به ولو على
أحب الناس للإنسان.
إن العدل قيمة إسلامية كبرى، وغيابه سبب
رئيس في فساد المجتمعات وضعفها، فجعل الله العدل أساسًا للعلاقات بين الناس، وأمر
به حتى مع الخصوم والأعداء، وإن إحياء هذه القيمة مما يحتاج إلى تربية إيمانية
خاصة، وتطبيق عملي في البيوت والمدارس والمؤسسات، فالعدل هو الطريق إلى الأمان
والسعادة والنهضة، والظلم طريق إلى الخراب والشقاء والفساد.
_______________
(1) مجموع الفتاوي (28/ 63).
(2) صحيح مسلم (2578).
(3) صحيح مسلم (1827).
(4) أخرجه أبو داود (5224)، والبغوي في «معجم
الصحابة» (75)، والطبراني (559)، وصححه الألباني.
(5) أخرجه مسلم (1688)، وأبو داود (4373)،
والترمذي (1430).