التعصب الرياضي.. هؤلاء هم الضحايا

جاءت الضجة التي شهدتها منصات التواصل الاجتماعي مؤخرًا بمصر، إثر تداول
إعلان أنتجته إحدى شركات الاتصالات الذي صور جماهير أحد الأندية الكروية بشكل ساخر
ومتحامل، كحلقة جديدة في سلسلة طويلة من وقائع التعصب الكروي التي تشهدها بلدان
العالم العربي.
الواقعة تؤكد أن هذه الظاهرة لم تعد مجرد حوادث عابرة أو ردود فعل مؤقتة،
بل تحوّلت لأزمة قيمية وسلوكية ذات أبعاد اجتماعية ونفسية وأمنية.
الإعلان المثير للجدل تزامن مع عدة حوادث أخرى على الصعيد العربي، أبرزها
ما وقع في الدوري السعودي بين جماهير فريقين كبيرين من اشتباكات بالمدرجات.
https://www.youtube.com/watch?v=Rfa0-Isq774
إلى جانب مشهد اقتحام المشجعين للملعب خلال إحدى مباريات الدوري العراقي
والاعتداء على حكم المباراة
https://www.youtube.com/watch?v=ehyoaFgUEPo
وأيضًا ما شهدته مباراة الديربي المغربي من أعمال شغب اضطرت قوات الأمن
للتدخل لتفريقها.
https://www.youtube.com/shorts/JKQfFv22qfw
يكشف هذا كله مدى تغلغل التعصب الرياضي في النفوس حتى نسي البعض أن الرياضة
–وعلى رأسها كرة القدم– ما هي إلا وسيلة لهو وترفيه، لا تستحق أن تُسفك لأجلها
الدماء أو تُبرَّر بها أبسط صور العنف، وهو ما يجعل من ظاهرة التعصب الكروي هاجسًا
يؤرق المجتمعات العربية لا سيما مع وجود أكثر من 1200 نادٍ رياضي ونحو 200 نادٍ
محترف تخوض منافسات محتدمة ما يفتح الباب أمام استقطابات حادة تهدد الأمن والسلم
المجتمعي.
بين التعصب والتسامح
رغم أن التعصب صفة ذميمة ينفيها المتعصبون عن أنفسهم، فإنهم يمارسونها
عملياً بأشكال مختلفة كونهم لم يحددوا خطوطاً فاصلة بين الإعجاب بشيء ما من جهة، والميل
المتصلب المتعنت الذي يحجب عن صاحبه وجوه الحقيقة من جهة أخرى.
يتسم المتعصب رياضياً بصفات منها أنه لا يقبل نقد فريقه فيراه دائمًا
الأفضل؛ لذا يعمل وباستمرار على تحقير الفريق المنافس وشيطنة المنتمين له والتقليل
منهم، فيما يكون تفاعله في النقاشات بعصبية كونه يقدم الانتماء على القيم
والأخلاق.
أما التسامح، فهو قيمة معاكسة للتعصب؛ إذ يقوم على قبول الآخر واحترام
اختلافه، ويعني رياضياً تقبل فوز الفريق المنافس دون حقد أو سخرية، واحترام مشجعي
الفرق الأخرى وعدم الإساءة إليهم، إيماناً من المتسامح بأن الانتماء الكروي لا
ينبغي أن يفسد العلاقات الإنسانية أو يشوه الأخلاق.
مظاهر التعصب
وللتعصب الكروي العديد من المظاهر، منها مثلاً سب مشجعي الفرق المنافسة أو
لاعبيها أو إداراتها، وافتعال المشكلات داخل الملاعب أو في المنازل بسبب نتائج
المباريات، وغرس الكراهية في الأبناء تجاه الآخرين بسبب تشجيع ناد آخر، وهي كلها
سلوكيات تنعكس سلبياً على المجتمع، فتترسخ فيه التفكك والعنف والكراهية فضلاً عن
تشويه للذوق العام.
ولعلنا نشير لبعض الحوادث التي تكشف عن خطورة هذا التعصب الكروي، ومنها
مثلاً ما وقع بالجزائر عام 2014م من حادثة مأساوية في ملعب «تيزي وزو» حين توفي
اللاعب الكاميروني ألبير إيبوسي بعد تعرضه لضربة بمقذوف من المدرجات.
https://www.youtube.com/watch?v=7x4GoXN1mHw
أو ما شهدته مباراة الأهلي والزمالك المصريين في فبراير 2020 بأبو ظبي من
اشتباكات.
https://www.youtube.com/watch?v=XBljZ_VOGEM
أو ما أسفرته عنه أحداث الشغب بعد مباراة بين فريقين مغربيين عام 2016م حيث
قتل شخصان وجرح العشرات، والكثير من الحوادث الأخرى، بالإضافة للمشاحنات والنقاشات
الحادة التي تشهدها الكثير من جلسات الأصدقاء أو الأقارب في الأماكن العامة وحتى
الخاصة التي غالباً ما تنتهي وقد تركت مشاعر سلبية في النفوس.
الرياضة في الإسلام
من المعلوم أن نظرة الإسلام للرياضة تتسم بالإيجابية باعتبارها وسيلة
لتقوية الجسد وتنمية القدرات وتهذيب النفوس وخدمة المجتمع انطلاقاً من قول النبي
صلى الله عليم وسلم: «المؤمن القوي خيرٌ وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل
خير..» (رواه مسلم).
وكان من تلك الرياضات التي حث النبي صلى الله عليه وسلم على تعلمها
وممارستها الرماية والسباحة وركوب الخيل، فكان مما يروى عنه عليه الصلاة والسلام
قوله: «ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميًا» (رواه البخاري، ومسلم)، وقوله: «كل
شيء ليس من ذكر الله فهو لهوٌ ولعبٌ، إلا أربع: ملاعبة الرجل امرأته، وتأديبه
فرسه، ومشيه بين الغرضين، وتعليمه السباحة» (رواه النسائي).
بل كان النبي صلى الله عليه وسلم يمارس الرياضة بنفسه ومن ذلك ما رواه
ركانة بن عبد يزيد، وكان يلقب بأشد الناس بطشاً: صارعني رسول الله صلى الله عليه
وسلم فصرعني. (رواه أبو داود)، وكذلك ما روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها إذ
قالت: سابقني رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبقته، فلما حملت اللحم سابقني
فسبقني، فقال: «هذه بتلك» (رواه أبو داود).
لكننا في المقابل نجد أن الإسلام كان حريصاً أشد الحرص على أن يلتزم ممارسو
الرياضات بحزمة من الأخلاقيات والسلوكيات فلا تكون ممارستها ملهية عن الفرائض أو
ساحة للخلافات والمشاحنات أو ذريعة للإساءة.
دعوة للتسامح
يرفض الإسلام بشكل حاسم وصريح كل ما يهدم القيم أو يهددها ويثير الفتن
ويؤجج الأحقاد، فهو دين عدل واعتدال وإنصاف؛ لذا فإنه لا يقر التعصب الذي هو
انحياز أعمى ورفض للحق لمجرد أنه صدر من الطرف الآخر أو مناقضاً لما يوافق الهوى
والانتماء.
وقد جاءت العديد من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية تؤكد هذا المعنى،
ومنها قوله تعالى: (إِذْ
جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ
الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى
الْمُؤْمِنِينَ) (الفتح: 26)، وقوله: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا
تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ) (المائدة: 8)، وكذلك
قوله: (قُلْ يَا أَهْلَ
الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ) (المائدة: 77).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من
قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية» (رواه أبو داود)، فيما روي عنه صلى
الله عليه وسلم أنه قال عندما سمع عن نزاع بين المهاجرين والأنصار: «دعوها فإنها
منتنة» (متفق عليه).
كما دلت نصوص الكتاب والسُّنة على أن التسامح خلقٌ أصيل لحفظ العلاقات
واستقامة المعاملات وازدهار المجتمعات، فمما جاء في القرآن الكريم قوله تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ
وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) الأعراف:
199).
كما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المثل والقدوة على التسامح فعفا عمن أذاه
وصفح عمن ظلمه ودعا في الوقت نفسه صحابته الكرام إلى التحلي بهذه السمة فكان من
ذلك قوله: «يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا» (متفق عليه)، وقوله: «رحم الله
رجلًا سمحًا إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى» (رواه البخاري).