التوازن في علاج أخطاء الأبناء

بعد أن تناولنا
في المقال السابق أهمية تشجيع وتحفيز الأبناء والبنات ودور ذلك في بناء شخصيتهم
وتعزيز ثقتهم بأنفسهم، ندرك اليوم أن الأبناء لا يسيرون دائمًا على وتيرة واحدة من
الصواب، بل يخطئون ويقصرون، وهو أمر فطري في طبيعة البشر.
وهنا تتجلى حاجة
المربي إلى مهارة التوازن في التعامل مع أخطاء الأبناء، بما يحفظ لهم كرامتهم،
ويوجههم بلطف، ويعالج الخطأ دون أن يطفئ بداخلهم روح المبادرة أو يزرع في نفوسهم
مشاعر الذنب المُحبِطة.
لذا، يأتي هذا
المقال ليسلط الضوء على الأساس الرابع؛ وهو التوازن في علاج أخطاء الأبناء، ويكشف
عن الهدي النبوي في فن المعالجة التربوية، وكيف يمكن أن نحول الخطأ إلى نقطة
انطلاق نحو الخير والنمو لا إلى سبب في الانكسار أو التمرد.
الأبناء في كل
الأحوال هم بشر كباقي البشـر؛ يخطئون ويصيبون، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ
بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ»(1)، وأخطاء
الأبناء ليست أمراضًا؛ بل هي أعراضٌ نتجَت عن سوء تعامل تربوي معهم، فالمشكلة في
عالم التربية ليست في خطأ الأبناء؛ فربما يستفيد الأبناء والآباء من الأخطاء أكثر
مما يستفيدون من الإصابة، لكنّ المشكلة في طريقة علاج الأخطاء، وقد يُصاب الأبناء
بإحساس سلبيّ إذا وقعوا في الخطأ، وحينها يحتاج الأبناء إلى مُعينٍ ومُسانِد
وداعمٍ لهم أكثر مما يحتاجون إلى مُعاتِبٍ أو مُبالِغ في علاج الخطأ.
وإنَّ لجوء
الأبناء إلى السلوكيات الخاطئة تعني افتقارهم إلى الأمان أو التقدير أو الإحساس
بالذات، فضلاً عن أنه يكون نتيجة طبيعية للإهمال التربوي أو الخطأ عند التعامل مع
السلوك الخاطئ، والعجيب أن بباطن كل سلوك سلبيّ لدى الأبناء موهبة وطاقة إيجابية،
يمكن للمُربِّي أن يعمل على اكتشافها وتنميتها، وهنا يأتي الهدي النبوي الكريم في
علاج أخطاء الأبناء؛ حيث كان النبيّ صلى الله عليه وسلم ينوّع وسائل العلاج
للأخطاء، وذلك على النحو التالي:
1- النصيحة والموعظة بهدوء:
النصيحة
والموعظة بهدوء -إن استجاب الولد فبها ونعمت، وإن لم يكن فعليه وسيرى عاقبة أمره-
بلا ضرب أو إهانة أو تقليل من شأن الابن؛ ففي موقف عبدالله بن عمرو بن العاص لمّا
شدّد على نفسه في التعبّد والصيام ما يدل على ذلك.
ففي الحديث عن
عبدالله بن عمرو بن العاص قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يَا
عَبْدَاللَّهِ، أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ، وَتَقُومُ
اللَّيْلَ؟»، فَقُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «فَلاَ تَفْعَلْ صُمْ
وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ، فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ
لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ
لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ بِحَسْبِكَ أَنْ تَصُومَ كُلَّ شَهْرٍ
ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنَّ لَكَ بِكُلِّ حَسَنَةٍ عَشْرَ أَمْثَالِهَا، فَإِنَّ
ذَلِكَ صِيَامُ الدَّهْرِ كُلِّهِ».
فَشَدَّدْتُ،
فَشُدِّدَ عَلَيَّ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَجِدُ قُوَّةً قَالَ:
«فَصُمْ صِيَامَ نَبِيِّ اللَّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، وَلاَ تَزِدْ
عَلَيْهِ»، قُلْتُ: وَمَا كَانَ صِيَامُ نَبِيِّ اللَّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ
السَّلاَمُ؟ قَالَ: «نِصْفَ الدَّهْرِ»، فَكَانَ عبداللَّهِ يَقُولُ بَعْدَ مَا كَبِرَ:
يَا لَيْتَنِي قَبِلْتُ رُخْصَةَ النَّبِيِّ(2).
2- الشدّة والغِلْظة أحيانًا:
ومثال ذلك أنه
لما أخطأ أسامة بن زيد بقتل الرجل في المعركة، أغلظ عليه القول، ففي الحديث الذي
أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أسامة بن زيد، قال: بَعَثَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله
عليه وسلم فِي سَرِيَّةٍ، فَصَبَّحْنَا الْحُرَقَاتِ(3) مِنْ
جُهَيْنَةَ(4)، فَأَدْرَكْتُ رَجُلًا فَقَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللهُ،
فَطَعَنْتُهُ فَوَقَعَ فِي نَفْسـِي مِنْ ذَلِكَ، فَذَكَرْتُهُ لِلنَّبِيِّ،
فَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: «أَقَالَ لا إِلَهَ إِلا اللهُ وَقَتَلْتَهُ؟»
قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّمَا قَالَهَا خَوْفًا مِنَ السِّلَاحِ،
قَالَ: «أَفَلا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لا؟»،
فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي أَسْلَمْتُ
يَوْمَئِذٍ(5).
ورغم كل هذا
وجدناه صلى الله عليه وسلم يقوم بتوليته جيش الروم قبل وفاته عليه الصلاة والسلام،
فعند علاج الأخطاء يعالج السلوك لتقويم الابن لا لكسره أو تدميره.
3- كسـر الحاجز النفسـي لدى الأبناء وإعطاء فرصة للحوار العقلي:
ولا شك أنّ كل
واحدٍ من البشر فيه خير، لكنه يحتاج إلى من يُخرج هذا الخير منه ليطفو على سطح
العلاقات الإنسانية والسلوكية، فلا بدّ من تفهّم طبيعة الابن قبل علاج خطئه: هل
فعله متعمّدًا؟ أم أنه ضعُفت نفسه فوقع فيما وقع فيه؟ وهل يريد العودة والتوبة أم
ماذا؟
ولعل موقف الشاب
الذي أراد الزنى يعبّر عن المعنى المطلوب؛ فقد أدناه منه النبيّ صلى الله عليه
وسلم حين أراد تصويب الخطأ، وقال: «ادن مني»، ثم حاوره عقلاً كما سبق بيان الحديث
بتفاصيله، ثم عاد الشاب وليس أكره إلى قلبه من الزّنى.
4- تنويع الوسائل التربوية والتعليمية المستخدمة في علاج الأخطاء والدلالة على الصواب من القول والسلوك:
فقد كان النبيّ
صلى الله عليه وسلم ينوّع وسائله التربوية في التربية والتعليم، ومنها: الرسم على
الأرض للوصول لقيمة أو هدفٍ ما، الإشارة باليد لتوضيح ما أُشْكِل ولتقريب الصورة
للذهن مع الكلام، والتعليم المباشر للأولاد من خلال استخدام إشارة يد المتعلّم..
5- التغافل أحياناً والستر على الابن عند الخطأ وعدم الفضيحة له:
معلوم أنّ النفس
البشـرية تكره من يفضحها ويُفشي أمرها بين الناس، فكيف بالأبناء الصغار، الذي
يتوقّعون من أهاليهم الستر عليهم عند الخطأ، ولا يعني هذا أن يقبل الأب بالأخطاء
ويسكت عن علاجها، وإنما التغافل مع الستر عند تكرار الخطأ، مع إيقاع العقوبة
المناسبة المتوازِنة.
لذا يقول الإمام
المُرَبِّي أبو حامد الغزالي: «.. فإن خالف ذلك في بعض الأحوال مرة واحدة، فينبغي
أن يتغافل عنه ولا يهتك ستره ولا يكاشفه، ولا سيما إذا ستره الصبي واجتهد في
إخفائه؛ فإنَّ إظهار ذلك عليه ربما يفيده جسارة حتى لا يبالي بالمكاشفة، فعند ذلك
إن عاد ثانيا فينبغي أن يُعَاتَب سرًّا، ويعظم الأمر فيه، ويقال له: إياك أن تعود
بعد ذلك لمثل هذا»(6).
وإذا كان علاج
الخطأ يتطلب حكمةً وتوازنًا، فإننا لا نستطيع أن نفصل بين معالجة السلوك الظاهر
وبين الاحتياجات النفسية والعاطفية العميقة التي قد تكون وراءه، فكم من سلوك سلبي
ما هو إلا نداء خفي يطلب الحنان، أو صرخة غير معلنة تبحث عن التقدير!
اقرأ أيضاً:
من الأسس النفسية والوجدانية في عملية التربية النبوية
التربية على ممارسة الزاد التعبدي والدعوي
________________________
(1) أخرجه ابن
ماجه في سننه من حديث أبي هريرة: أبواب الزّهد، باب ذكر التوبة، (4251)، وقال عنه
في التحقيق: (إسناده حسن)،
(2) أخرجه
البخاري في الصحيح: كتاب الصوم، باب حق الجسم في الصوم، (1975).
(3) أي: أتيناهم
صباحا، والحُرُقات موضع ببلاد جهينة، قاله محمد فؤاد عبدالباقي في شرحه لصحيح مسلم
في هامش صحيح مسلم: ج1، ص96.
(4) يقول ياقوت
الحموي في معجم البلدان: (جُهَينَةُ: بلفظ التصغير، وهو علم مرتجل في اسم أبي
قبيلة من قضاعة: وسمي به قرية كبيرة من نواحي الموصل على دجلة -بالعراق-، وهي أول
منزل لمن يريد بغداد من الموصل، وعندها مرج يقال له مرج جهينة..) [معجم البلدان:
شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي (المُتَوَفَّى: 626هـ)،
ج2، ص194، ط2/ 1995م، دار صادر، بيروت].
(5) صحيح مسلم:
كتاب الإيمان، بَابُ تَحْرِيمِ قَتْلِ الْكَافِرِ بَعْدَ أَنْ قَالَ: لا إِلَهَ
إِلا اللهُ، (96).
(6) إحياء علوم الدين: ج3، ص217.