الكيان الصهيوني.. من حروب وجودية إلى حروب توسعية

د. أمجد بشكار

24 يونيو 2025

137

في عام 1948، ظهر الكيان الصهيوني على الخريطة السياسية للشرق الأوسط وسط صدمة عربية وارتباك دولي، منذ ذلك الوقت، لم تستقر المنطقة ولم تهدأ حدود «إسرائيل» يومًا، فقد وُلد الكيان وسط محيط معادٍ؛ ما رسّخ ذلك في وعي «الإسرائيليين» -وسرعان ما أصبح جزءًا من خطابهم السياسي والعسكري– أن كل حرب يخوضونها «حرب وجودية».

لكن مع مرور العقود ومع تغير موازين القوى، تحوّلت تلك الحروب إلى شيء آخر؛ حروب توسعية، لا تستهدف الدفاع عن الوجود، بل فرض الهيمنة، وتوسيع النفوذ، وتغيير الخرائط السياسية والديموغرافية لصالح مشروع قومي استيطاني لا يعترف بحدود ثابتة.

قراءة في كتاب «فكرة إسرائيل» للمؤرخ اليهودي إيلان بابيه |  Mugtama
قراءة في كتاب «فكرة إسرائيل» للمؤرخ اليهودي إيلان بابيه | Mugtama
كتاب «فكرة إسرائيل» (The Idea of Israel) من تأليف...
mugtama.com
×

شرعية بالقوة

لم يكن قيام «إسرائيل» مجرد إعلان سياسي، وإنما تأسس بقوة السلاح وبدعم دولي، خصوصًا من بريطانيا في البداية، ثم الولايات المتحدة لاحقًا، وفي حرب عام 1948م، واجه كيان الاحتلال «الإسرائيلي» جيوش 5 دول عربية، ومع ذلك خرجت منتصرة، بل زادت مساحتها عن تلك المخصصة لها في قرار التقسيم الأممي، من وجهة النظر «الإسرائيلية» كان ذلك نصرًا «وجوديًا»، ومن وجهة نظر العرب كان «نكبة»، هذه الحرب أسست لفكرة أن «إسرائيل» تخوض حروبها لتبقى.

لكن تأملًا أعمق في مسار الصراع يكشف أن «إسرائيل»، ومنذ لحظة التأسيس، لم تكن دولة تكتفي بحدود، بل كانت تسعى لخلق واقع جغرافي وسياسي يناسب مشروعها الصهيوني وعليه، لم تكن حرب عام 1948م مجرد حرب بقاء، بل كانت أيضًا أولى خطوات التوسع.

من الخطر العربي إلى المبادرة «الإسرائيلية»

خلال عقدي الخمسينيات والستينيات، كان الخطاب «الإسرائيلي» يعتمد على وجود خطر عربي داهم، ومع اقتراب حرب عام 1967م، كانت الدعاية «الإسرائيلية» في أوجها حول تهديد إبادة محتمل، رغم أن الوقائع تُظهر أن «إسرائيل» خططت ونفّذت ضربة استباقية قلبت ميزان القوى خلال 6 أيام فقط، احتلت الضفة الغربية، والقدس الشرقية، وقطاع غزة، وشبه جزيرة سيناء، وهضبة الجولان.

ورغم أن الاحتلال المؤقت قد يُفهم أحيانًا في سياق الحروب الدفاعية، فإن استمرار الاحتلال لعقود، ورفض الانسحاب من أغلب الأراضي، والبناء الاستيطاني، يُشير بوضوح إلى انتقال من منطق الدفاع إلى منطق التوسع.

فلماذا استمر الكيان في احتلال الأراضي بدلًا من الانسحاب بعد انتهاء الحرب؟ الإجابة تكمن في التغيير الإستراتيجي الذي شهدته العقيدة العسكرية والسياسية: لم تعد «إسرائيل الصغيرة» كافية، أصبحت السيطرة على الأرض جزءًا من الأمن القومي، ووسيلة لتقوية النفوذ.

كيف استغل الكيان الصهيوني فوضى المنطقة لإعادة رسم خرائط الشرق الأوسط؟ |  Mugtama
كيف استغل الكيان الصهيوني فوضى المنطقة لإعادة رسم خرائط الشرق الأوسط؟ | Mugtama
على مدى العقود الماضية، كان مشروع الرؤية الصهي...
mugtama.com
×

اختبار الحدود

أحد أبرز الأمثلة على التحول إلى الحروب التوسعية كان في اجتياح لبنان عام 1982م، حينها، لم يكن هناك جيش عربي يهدد حدود «إسرائيل»، بل كان الأمر يتعلق بمنظمة التحرير الفلسطينية التي تمركزت في الجنوب اللبناني، كانت العمليات الفدائية تشكل مصدر إزعاج أمني للاحتلال، لكن الرد جاء على شكل غزو شامل وصل إلى بيروت، عاصمة دولة عربية مستقلة، تم تهجير عشرات الآلاف، وقُتل الآلاف، ودُمرت البنية التحتية، فقط من أجل تحقيق أمن «إسرائيل».

هذا التوغل لا يمكن اعتباره حربًا وجودية بأي معيار، لم تكن «إسرائيل» مهددة بالزوال، بل كانت تسعى إلى تغيير خريطة القوى في لبنان والمنطقة وطرد منظمة التحرير، بل وتنصيب حكومة صديقة في بيروت، وهو ما لم يتحقق لاحقًا بسبب تعقيدات الداخل اللبناني وصعود المقاومة.

سياسة الزحف الاستيطاني

إذا كانت الحروب الوجودية تُخاض بالسلاح في ميادين القتال، فإن التوسع «الإسرائيلي» في فلسطين يُمارَس يوميًا وعلى مدار الساعة من خلال الاستيطان، والهدم، والضم الفعلي غير القانوني؛ لذا ما زلنا نشهد في الضفة الغربية توسّعاً للمستوطنات حتى أصبحت تشكل طوقًا خانقًا على المدن الفلسطينية، في القدس، تغيّرت ملامح المدينة عبر طرد السكان الأصليين، ومنح المستوطنين غطاء قانونيًا ومؤسساتيًا.

هذه ليست إجراءات دفاعية، وإنما مشروع استيطاني ممنهج، يهدف إلى خلق واقع ديموغرافي لا رجعة فيه، ومن ثم فرضه سياسيًا، في هذا السياق، لا تُعدّ غزة استثناءً، إذ رغم الانسحاب «الإسرائيلي» منها في عام 2005م، فإن «إسرائيل» تحاصرها منذ ما يزيد على 17 عامًا، وتشنّ عليها بين الحين والآخر حروبًا مدمرة، آخرها كان الأعنف في تاريخ المنطقة (2023–2025م)، في كل مرة تُبرر العمليات بأنها رد على الصواريخ، لكن الأهداف الحقيقية غالبًا ما تتعلق بإعادة صياغة قواعد اللعبة، أو تحسين شروط التفاوض، أو اختبار الردع.

الأمن كغطاء دائم

في الخطاب الرسمي «الإسرائيلي»، لا تزال التهديدات الوجودية حاضرة بقوة، يُستخدم مصطلح «الأمن» لتبرير كل شيء؛ الجدار العازل، والقصف، والاغتيالات، والحصار، والاعتقالات الإدارية، ورفض أي انسحاب، لكن حين تُدقق في مجريات الأحداث، تجد أن «الأمن» ليس سوى ذريعة للاستمرار في مشروع أكبر؛ الهيمنة، فحين تصبح الدولة الأقوى عسكريًا في المنطقة، بدعم غير محدود من واشنطن، وتتحكم في التكنولوجيا، والاقتصاد، والمياه، والأجواء، فإن الادعاء بأن وجودها مهدد يصبح صعب التصديق.

التحول من الحروب الوجودية إلى التوسعية لا يعني أن «إسرائيل» لم تعد تواجه تهديدات حقيقية، بل يعني أن إستراتيجيتها لم تعد تكتفي برد الفعل، بل باتت تخلق بيئات النزاع، وتوظفها سياسيًا لصالح مشروعها الأوسع.

من ضحية إلى قوة مهيمنة

في سردية العقود الماضية، نجحت «إسرائيل» في تسويق نفسها على الدوام كضحية مهددة، لا كقوة إقليمية فاعلة، لكن قراءة موضوعية لتاريخ حروبها وتدخلاتها تُظهر تحولًا تدريجيًا نحو مفهوم الحرب الهجومية المدروسة، من الدفاع عن النفس في بدايات النشأة، إلى استخدام القوة لتحقيق مكاسب إستراتيجية وسياسية وديموغرافية، باتت «إسرائيل» تمثل حالة خاصة في العلاقات الدولية؛ دولة بلا حدود نهائية، تمارس الحروب كوسيلة لصياغة المنطقة من جديد، وفق رؤيتها الخاصة.

وهنا، لا يمكن تجاهل دور المجتمع الدولي، خصوصًا القوى الكبرى، في تغذية هذا التحول، فحين لا تُحاسب دولة على احتلال، أو قتل، أو قصف، بل تُكافأ بالدعم المالي والعسكري والسياسي، فإن ذلك يصبح دعوة مفتوحة لمزيد من الحروب، لا من أجل البقاء، بل من أجل التوسع.


تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة