لماذا الغرب غير جاد في الضغط على الكيان الصهيوني لوقف الإبادة؟

منذ أن وضعت «الحرب الباردة» أوزارها
وحُسم الأمر لصالح الغرب، أصبحنا أمام أطروحات نهاية التاريخ وسيادة المشروع
الغربي الليبرالي، وأمام مفاهيم الحرية وحقوق الإنسان وتقرير المصير، التي يراد
لها أن تكون مفاهيم كونية، وتُعايَر الدول على أساس الالتزام بها.
ومن يتابع النموذج الغربي وتحديدًا على
المستوى السياسي والثقافي، وخاصة بعد أن استقر له الأمر على هذا النحو؛ لا بد أن
يتساءل: أين ذهب كل هذا الإرث أمام إبادة تجري على الهواء في غزة؟ هل عادت مشاريع
الاستعمار تطل برأسها من جديد، أم إن دعاة الليبرالية والحرية لم تخترق آذانَهم
أصواتُ الرصاص ولا آهات الأطفال والثكالى والنازحين؟
والحقيقة، أن الغرب يعرف ما يجري بغزة،
ويتابع فصول الجرائم المتلاحقة، بل هو شريك في وقائعها؛ إمدادًا بالسلاح ورصدًا
للمعلومات؛ إذن، يبقى السؤال: لماذا الغرب غير جاد في الضغط على الكيان الصهيوني
لوقف الإبادة، على الأقل، اتساقًا مع ما يزعم أنها مبادئه فيما يتصل بالحقوق
والحريات؟!
الكيان رأس حربة الغرب
وأول ما يجب أن نعرفه في هذا الصدد، هو
أن الكيان الصهيوني ليس مشروعًا منفصلاً عن الغرب، ولا مشروعًا قائمًا بنفسه يستمد
قوته من إمكاناته الذاتية وحدها؛ وإنما هو رأس حربة للمشروع الغربي، وبالتالي لا
يسمح الغرب بهزيمته.
الكيان الصهيوني وُجد لحل مشكلة غربية
لما عُرف بـ«المسألة اليهودية»؛ فالغرب مُعْنيّ بهذه المشكلة التي لم يجد لها
حلاًّ إلا أن يصدِّرها خارجه، ويوظِّفها ضمن أطماعه الاستعمارية؛ ومن ثم، عليه أن
يضمن بقاء هذا المشروع، وإلا ارتد إلى أصله؛ أي إلى أن يعود من جديد مشكلةً للغرب
من ناحية، ويفقد الغربُ قاعدة عسكرية كبرى بالمنطقة متمثلة في الكيان من ناحية
أخرى، كما كان يصفه المفكر الراحل د. عبدالوهاب المسيري.
الإبادة جزء من ثقافة الغرب وأدواته
نعم، الغرب في نهضته الحديثة لم يكن له
أن يقوم إلا على أكتاف من استبعدهم من الشعوب الأفريقية، ومن أبادهم من السكان
الأصليين كما في حالة أمريكا، فالإبادة جزء أساس من ثقافة الغرب وأدواته في سيطرته
الإمبريالية وليست غريبة عنه.
ورغم كل ما أنجزه الغرب من تراكمات في
الحقوق والمكتسبات المدنية والسياسية والثقافية، التي بها جمَّل ولدرجة ما وجهَه
القبيح، فإن هذه المكتسبات ظلت حكرًا على الإنسان الغربي وحده، وليس أدل على ذلك
من رعاية الغرب وتشجيعه لأنظمة الحكم الدكتاتورية ما دامت هذه الأنظمة تخضع
لإملاءاته! وأما حقوق الشعوب فليس الغرب مَعنيًّا بها على الحقيقة!
ولعلنا هنا نشير إلى ما فعله نتنياهو حين
أزعجته إدانات غربية لما يجري من إبادة بغزة، وهي إدانات لم ترقَ لمستوى خطوات
عملية لوقف الإبادة! فلم يجد نتنياهو مفرًّا من تذكير الغرب بما ارتكبه في حق
الشعوب الأخرى، كما في سجاله مع فرنسا عن جرائمها في دولة مالي؛ وكأن نتنياهو يقول
لهم: لا أحد أحسن من أحد، كلنا في الإبادة شركاء!
تأديب غزة وإعادة رسم الخرائط
بقدر ما اعتبر الكيان الصهيوني أن عملية
السابع من أكتوبر مثّلت تهديدًا وجوديًّا له، وبقدر ما اعتبرها الغرب خروجًا على
ما رسمه من خرائط وما أقامه من معادلات بالمنطقة؛ فإن ثمة رغبة جادة من الكيان ومن
الغرب في تأديب غزة، بل وفي إعادة رسم خرائط المنطقة فيما يعرف بـ«الشرق الأوسط
الجديد»، الذي انطلقت إشاراته حتى من قبل «طوفان الأقصى».
وليست مبادرة الرئيس الأمريكي دونالد
ترمب في تهجير أهل غزة وتحويل القطاع إلى «ريفيرا الشرق الأوسط» إلا تأديبًا لغزة
وإعادة لتشكيل المنطقة.
إن السلوك العدواني من الكيان الصهيوني، الذي
فاق أي درجة متخيَّلة لما يمكن أن يسمَّى الرد على يوم السابع، جاء لتأديب غزة
مقاومة وحاضنة شعبية، ولاستعادة هيبة الردع التي مزقتها عملية «طوفان الأقصى».
وقد كشفت تسريبات رئيس الاستخبارات
العسكرية «الإسرائيلية» السابق أهارون هاليفا عن خططهم بأن كل «إسرائيلي» قُتل في
7 أكتوبر يكون مقابله 50 فلسطينيًّا.
خذلان العرب لغزة
لا يمكن التساؤل عن سبب عدم جدية الغرب
في وقف الإبادة، دون الأخذ في الاعتبار الموقف العربي المتخاذل من الإبادة؛ هذا
الموقف الذي تراوح بعضه بين الصمت تارة، واستعجال الكيان للقضاء على المقاومة تارة
ثانية، وإمداد الكيان بالدعم اللوجستي تارة ثالثة.
وهنا يكفي أن نشير إلى ما كشفه الصحفي
الأمريكي بوب ودوورد في كتابه «حرب» عن أحاديث الغرف المغلقة، بشأن دعم الأنظمة
العربية للكيان وتحذيرهم مسبقًا من المقاومة.
وقد كشفت هذه الأحاديث عن نفسها لاحقًا
في العلن، على هيئة مواقف تبدو داعمة للحق الفلسطيني ومندِّدة بالعدوان الصهيوني،
لكنه الدعم الذي لا يقدم إلا الكلام والبيانات، والتنديد الذي لا يمنع من إراقة
الدماء.
ولو صدقت الأنظمة العربية في دعمها
وتنديدها، فما أكثر ما لديها من أوراق ضغط على الكيان الصهيوني لوقف الإبادة ومنع
التهجير، وأوراق ضغط على الغرب ليغل يدَ مشروعِه الصهيونيّ عن الاستمرار في
الجرائم.
ولعل تصريحات المستشار الألماني فريدريتش
ميرتس عن الضربات الموسعة الأخيرة التي قام بها الكيان الصهيوني ضد إيران، حين
قال: «هذه مهمة قذرة تؤديها «إسرائيل» نيابة عنا جميعًا»؛ تكشف عن طبيعة علاقة
الكيان الصهيوني بالغرب، التي لا تقتصر على الملف الإيراني، وإنما تشمل مجمل
سياسات هذا الكيان الإجرامية والتوسعية، بغزة وبسائر دول المنطقة.
وبعد هذه الإشارات الموجزة، لعلنا أجبنا
عن التساؤل الذي طرحه المقال: لماذا الغرب غير جاد في الضغط على الكيان الصهيوني
لوقف الإبادة التي يرتكبها بغزة؟