هل خرجت النسوية من عباءة «هدم المقدس»؟

شيماء أحمد

08 سبتمبر 2025

261

يشهد العالم الإسلامي المعاصر تنامياً لحركة تأويل النصوص الدينية وفق منهج غربي ملتبس في صراعه مع الكنيسة، غافلاً عن أصول التأويل الشرعي وقداسة القرآن والسُّنة النبوية، بل ويستبق نظرة معادية لحضارة الإسلام، متهماً إياها بأنها منحازة ضد المرأة.

في كتابه «حركة التأويل النسوي للقرآن والدين وخطرها على البيان العربي وتراثه» للدكتور حسن الشافعي، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، يؤكد أن تيار التأويل الغربي للتراث الإسلامي، يتبناه باحثون متأثرون بالثقافة الغربية إلى حد التماهي معها، ومعظمهم بلا تأصيل رصين في العلوم الشرعية، وقد تبنتهم المؤسسات البحثية والجامعات الغربية ودعمتهم ومكنت لهم الالتحاق بها، ومن ثمّ تغلغلت في رؤوسهم مناهج الغرب في تفكيك المقدس وإحداث تشوّش يضبب المشهد ويغيب معه اعتزاز النشء بحضارته ولغته، ومن ثمّ قدرة أمتنا على النهوض.

لقد سار الفلاسفة المسلمون الأوّلون على قاعدة «لتعارفوا» القرآنية في ضرورة التواصل الحضاري، يقول ابن رشد: «يجب علينا أن نستعين على ما نحن بسبيله بما قاله مَن تقدمنا، سواء أكان ذلك الغير مشاركًا لنا في الملة أم غير مشارك»؛ لكنّ د. الشافعي يتساءل: عن أي انفتاح نتحدث في عصر ثورة المعلومات، هل التواصل الحضاري أم التماهي في الغرب والانسحاق أمام مذاهبه وهدم تراثنا؟

التأويل.. جذور التمرّد

ارتبط مصطلح «الهيرمينوطيقا» بالإغريق منذ أرسطو، وتطوّر منهم للعبرانيين وتضمن «التلمود» أو شروح العهد القديم للتوراة التي تمت على امتداد 8 قرون، وكان للمدرسة المصرية في القديم والأندلسية في العهد الإسلامي دور بارز في هذا الصدد، ثم تداخلت الكنيسة المسيحية ووضعت القواعد الأوغسطينية الأربع لتأويل الكتاب المقدّس، وتنوعت مدارسهم بين النصيين الظاهريين، والرمزيين الصوفيين، والمعتدلين الوسطيين، التي لا يخلو منهم فكر ديني.

ومع القرن السادس عشر، نمت حركة احتجاجية على التشدد الكاثوليكي في تفسير الكتاب المقدس وحصره في البابا وحده وآباء الكنيسة، ومن هنا ظهرت على يد لوثر، وكالفن، المذهب البروتستانتي الرافض لسلطة بابا الكنيسة والمطالب بمراعاة سياق النص الديني تاريخياً وقواعده اللغوية.

في العصر الحديث، انطلقت العقول من عقالها، بتعبير مؤلف الكتاب، وبالغ المفكرون في إخضاع نص الكتاب المقدس للنقد التاريخي والتحليل اللغوي، خلال القرن السابع والثامن عشر وما تلاهما، وكان لفلسفة التنوير أثر كبير في العصف بقداسة النص ومحتوياته، ثم تلتها النزعة العقلية الديكارتية على يد هوبز، وسبينوزا، ثم الفلسفة الإنسانية التي نادت بإخضاع النصوص الدينية للنقد الذاتي، ومن هنا ظهرت ضروب من الإلحاد والتمرد على الكنيسة بل وعلى التدين، وهكذا ولدت «الهيرمينوطيقا» الحديثة التي وضعها هوسرل وتلميذه هايدجر في حجر الفلسفات العقلية والتنويرية والإنسانية.

النسوية الهدامة

في خضمّ النصف الأول من القرن العشرين، نمت حركة نسوية إسلامية وعربية متأثرة بالغرب، وتراوحت مواقف الكاتبات بين التسليم بالدين مع اعتماد المناهج الغربية في التفسير للقرآن والنصوص الدينية، ورفض الأحاديث النبوية التي يرونها مضادة لحقوق المرأة، وبعضهن بلغ بهن الغلو إلى رفض الأحاديث النبوية جملة، بل مناقشة النص القرآني نفسه من حيث الثبوت أو المصدر الإلهي لبعض آياته، وإعلان الدعوة إلى إسلام جديد أو «ثيولوجيا إسلامية» من خلال إخضاع النصوص القرآنية والنبوية وكل المحتوى الحضاري إلى النقد التاريخي والفكري أسوة بما حدث في تاريخ الثقافة الغربية.

من نماذج الكاتبات اللاتي تأثرن بالمناهج الغربية في التفسير تأتي رفعت حسن، وهي مفكرة باكستانية ولدت في أربعينيات القرن الماضي لأسرة شيعية ودرست في مدرسة إرسالية مسيحية، وحملت لاحقاً الجنسية الأمريكية وعملت هناك كأستاذة للدراسات الدينية، وتأثرت كثيراً بأستاذها فضل الرحمن، المتأثر بدوره بأستاذه الياباني الذي سبق وعارض فكرة الوحي المنزّل من السماء على خاتم الرسل.

وبالعودة للكاتبة رفعت حسن، فقد رفضت كثيراً من أحاديث السُّنة النبوية، ورأت أنها تمس مكانة المرأة وحقها في المساواة الكاملة بالرجل، ومنها أنها خُلقت من ضلعٍ أعوج لآدم، وتأوّل لفظة آدم في القرآن بأنها الجنس البشري وليس أنه أبو البشر، وهكذا اجتهدت بشكلٍ مضنٍ في غير طائل لإثبات فرضية في رأسها بأن التراث الإسلامي الديني يحط من المرأة.

أمينة ودود

ويضرب الكتاب مثلًا آخر من جنوب أفريقيا وهي أمينة ودود، التي اعتنقت الإسلام وعملت في حركة التأويل النسوي وحصلت على دراساتها العليا من أمريكا، وأصدرت كتاب «القرآن والمرأة» الذي تُرجم للغات عدّة، مركزة على التأويل «الهرمنيوطيقي» للنص الديني القرآني، وتنفي حجيّة السُّنة النبوية، وبالتالي مثلاً ترفض إباحة الطلاق وتعدد الزوجات.

ومن مراكش المغربية، خرجت كاتبة أخرى تدعى فاطمة مرنسي، وتعلمت في أمريكا ومُنحت جوائز عدة كناشطة نسويّة، وكتبت عن الحجاب والديمقراطية وجوانب من التاريخ الإسلامي، وقد تأثرت بمدرسة محمد أركون التفكيكية للنص القرآني، التي تدّعي –حاشا لله- وجود أساطير ينبغي التخلص منها في طيّات النص المقدس، والنظر للقرآن كنص لغوي بعيداً عن قداسته.

مرنسي في كتاب «المرأة والإسلام» تنتقد النصوص النبوية المتعلقة بالمرأة، وترى أنها تأثرت بالمجتمع والسياسة آنذاك، ومن ذلك قضية الميراث، كما تركز على قضية الحجاب مثلاً وترى أنه كان أمرًا مؤقتًا زال بزوال عصره، وهي قضية تفرد لها كتاباً مستقلاً بعدها وتعتمد لغة تهاجم الصحابة الكرام وتتهمهم بالعداء للمرأة ومنهم أبو هريرة رضي الله عنه، وترى إجمالاً تاريخانية الأحكام والنصوص القرآنية، وعدم إلزامها للمسلمين في جوانب الشريعة بتغير العصر!

ليلى أحمد

ومن مصر، خرجت الكاتبة د. ليلى أحمد، ودرست في الغرب كمعظم رائدات الحركة النسوية، ووصلت لدرجة أستاذ في جامعة هارفارد بكلية الإلهيات، وفي كتاب «المرأة والإسلام» تكاد تتفق تماماً مع سابقتها المرنسي فيما يتعلق بقضية الحجاب والطلاق وتعدد الزوجات والضلع الأعوج وغيرها من المسائل، وتدعو لفهم التوجيه النبوي بشكل غير فقهي يؤول لتحليل وتحريم، وإنما بشكل أخلاقي يخاطب الضمائر فحسب، ثم تذهب إلى عدم ثبوت آيات القرآن قطعيًا بتواتر نزولها، قائلة: إن ما بأيدي الناس مختلف عما نُزّل على محمد صلى الله عليه وسلم.

وتعقيباً على تلك النزعات التي تجد أصداء لها بين كتّاب عالمنا التنويريين اليوم، الذين دشّنوا شبكات تدعم خطابهم، يؤكد د. الشافعي أن السعي لـ«تاريخانية النصوص الدينية» سيفضي إلى نسخها أو استبدالها والتشكيك فيها.

ومن جهة أخرى، سيفضي التحليل الذاتي لإهدار التأويل الحقيقي للآيات والشرع، خاصة مع عدم أهلية المأوّلين للتصدي لهذه المهمة الجسيمة التي يضطلع بها العلماء الثقات، ومع سبق الترصّد للعلوم الشرعية وسبل استنباط الأحكام من النصوص الدينية.

لذا، فقد حان الوقت لتبني «هيرمينوطيقا عربية»، وهي نسق فكري متكامل للتعامل مع النصوص العربية والدينية وتأويلها على نحو يحترم خصوصيتها وطبيعتها ويستحضر جهود الأوّلين والأسلاف في خدمة النص القرآني وعلوم الحديث النبوي، لكي نرد عن تراثنا ولغتنا ووجودنا الحضاري ريح السموم التي تهبّ من الغرب.



اقرأ أيضاً:

النسوية الراديكالية.. مشروع لمعاداة الرجل واستئصال الأسرة

إشكالية الحركة النسوية.. من الحقوق إلى الانحراف والمغالاة!

خارطة طريق لحماية المرأة المسلمة من اختراق التيارات النسوية

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة