التحالفات السياسية في العهد النبوي (1)

د. أشرف عيد

16 أبريل 2025

313

يدور المفهوم العام للتحالفات السياسية إلى التعاقد والتعاهد والتعاون بين طرفين أو أطراف على النصرة دون النظر إلى النواحي الدينية والفكرية للمتحالفين، وكان الحليف قبل الإسلام يرث سدس حليفه عند وفاته، وكان من عادة العرب ألا يعقدوا حلفهم إلا على النار، ولهذا قيل لها: «نار التحالف»، والتحالف لا يعني تبعية طرف لآخر؛ فبيعة الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم في العقبة لا تسمى تحالفًا؛ وإنما خضوع وتسليم واتباع للنبي صلى الله عليه وسلم، فقد دخلوا في الإسلام، وانضووا تحت لوائه.

أهداف التحالفات السياسية قبل الإسلام

اشتهر بين العرب سطوة القوي على الضعيف، فالضعيف تسلب أرضه وينتهك عرضه، ويمارس ضده كل وسائل الابتزاز والإذلال؛ ولم يقف المجتمع الجاهلي موقف المستكين لهذا الظلم؛ ولم يقف الضعفاء موقف المستسلم للقتل والذبح؛ فظهر نظام «الجوار»؛ يقصد به حماية كل من يشعر بانعدام الأمن والخوف على نفسه أو أهله أو ماله؛ فيطلب الدخول في حماية أحد السادة الأقوياء، وإن كان من عدوه، وليس أدل على ذلك من دخول النبي صلى الله عليه وسلم في جوار وحماية المُطْعم بن عدي (المشرك)، وقد أقر أبو جهل عدو الإسلام ورسوله حماية المطعم للنبي صلى الله عليه وسلم، ولم يخذله، فقال أبو جهل، للمُطعم: أمجير أم تابع؟ قال: بل مجير، قال: قد أجرنا من أجرت.

وقد حفظ النبي صلى الله عليه وسلم للمُطعم بن عدي صنيعه، فبعد أن انتصر المسلمون في غزوة «بدر»، وأسروا 70 من المشركين، فقال صلى الله عليه وسلم: «لو كان المطعم حيًا وكلمني في هؤلاء النتني لتركتهم له»(1).


التوازن بين المصلحة الشرعية والموقف العقائدي في التحالفات السياسية.. المقاومة الفلسطينية نموذجاً |  مجلة المجتمع الكويتية
التوازن بين المصلحة الشرعية والموقف العقائدي في التحالفات السياسية.. المقاومة الفلسطينية نموذجاً | مجلة المجتمع الكويتية
تثار بين حين وآخر إشكاليات حول أسس التحالفات السياسية في الإسلام، وأوجه التوازن بين المصلحة السياسية والموقف العقدي، وهو ما وضحه علماء شريعة وفقه وسياسة شرعية تحدثوا لـ
mugtama.com
×


وكانت القبائل تشارك حلفاءها الحروب تأييدًا لها في العدوان، وعرفت تلك الحروب في المصادر التاريخية بـ«أيام العرب»(2)، وتنوعت تلك التحالفات السياسية قبل الإسلام وفقًا للهدف منها، فهناك تحالفات تقوم على الظلم والعدوان، وتحالفات أخرى تقوم على الدفاع عن النفس ورد الظلم.

وأقر الإسلام التحالفات السياسية للأغراض الدفاعية، ونصرة المظلوم، ونهى عن التحالف للاعتداء، وأسقط التوارث بينهما، وما يسوده من طقوس شركية حيث جاء النهي عنها في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «لا حلف في الإسلام..»(3).

- التحالف نصرة للمظلوم:

لم يرُقْ لعقلاء العرب وساداتهم قبل الإسلام أن يروا مظلومًا يُقهر ويُسلب حقه من قبل أحد الأقوياء وهم واقفون لا يحركون ساكناً؛ فعقد بعض سادات قريش تحالفًا لنصرة المظلوم أيّا كانت قبيلته أو دينه والوقوف في وجه الظالم أيّاً كانت قوته، واشتهر بـ«حلف المطيّبين» قبل «عام الفيل»، وغمسوا أيديهم في الطِيب؛ لذا سمي بهذا الاسم، ثم شارك بعضهم بعد ذلك نصرةً للمظلوم في بيت عبدالله بن جُدعان، وقد شهده النبي صلى الله عليه وسلم، وهو في العشرين من عمره؛ حيث تحالفوا وتعاهدوا ألا يجدوا بمكة مظلومًا إلا قاموا معه، وكانوا على من ظلمه حتى ترد مظلمته، وعُرف بـ«حلف الفضول»، وقال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد البعثة: «لقد شهدت مع عمومتي حلفًا في دار عبدالله بن جُدعان ما أحب أن لي به حُمر النّعم! ولو دعيت إليه في الإسلام لأجبت»(4).

- التحالفات لرد العدوان والدفاع المشترك:

اتجه الضعفاء لمواجهة طغيان الأقوياء بعقد التحالفات التي تهدف إلى الدفاع عن النفس وتقوية بعضهم بعضًا على أساس المصلحة ضد الخطر المشترك الذي يهددهم؛ فالتحالفات السياسية تعد أداة فعالة في تحقيق الأهداف.

كان الأوس والخزرج في يثرب قبل الإسلام في حروب مستمرة، وكانت الشوكة فيها للخزرج على الأوس، وآخر تلك الحروب يوم «بُعَاث» قبل الهجرة بـ5 سنوات؛ فقد أحس الأوس بضعفهم أمام الخزرج؛ فلجؤوا إلى التحالف مع بني قريظة والنضير، ليواجهوا معهم الخزرج متى سنحت الفرصة للقتال.

لم يقف الخزرج موقف المنتظر أمام هذا التحالف الذي يهدد أمنهم، فما كان منهم إلا أن هددوا بني قريظة والنضير بالحرب، فلم تلبث بنو قريظة والنضير أن تراجعتا عن التحالف مع الأوس، وأعلنتا وقوفهما على الحياد، ولم يقنع الخزرج بذلك، فطالبتهما برهائن لضمان عدم تحالفهما مع الأوس، فدفعتا إليها 40 غلامًا، ولما يئس الأوس من ضمان أسباب النصر أرسلوا إلى مكة وفدًا محاولة منهم للتحالف مع قريش على الخزرج، فلم تستجب قريش حرصًا على عدم التدخل في أمور من شأنها أن تمس سلامة تجارتها(5).

أخذ غرور القوة الخزرج، فلم يكتفوا بفض عُرى حلف الأوس مع بني قريظة والنضير، وتقديمهم رهائن من أبنائهم إلا أنهم طمعوا فيما في أراضي ودور بني قريظة والنضير، واستغلوا ما بأيديهم من رهائن للضغط عليهم لقبول شروطهم أو قتل غلمانهم، وكانت منازل بني قريظة والنضير خير البقاع، فرفضوا الجلاء عن ديارهم وتسليمها للخزرج الذين نفذوا تهديهم وقتلوا غلمانهم؛ ما دفع بني قريظة والنضير للتحالف مع الأوس ضد الخزرج التي جمعت هي الأخرى وحشدت حلفاءها، واقتتلوا بموضع «بُعاث» -من أحياء المدينة اليوم-  قتالاً شديدًا، كان النصر في بدايته حليف الخزرج حتى ثبت الأوس وحلفاؤهم، واستطاعوا أن يعيدوا الكَرة عليهم، وهزموا الخزرج وحلفاءهم هزيمة فادحة؛ ثم مال الطرفان إلى الصلح(6).


التحالفات في السياسية الشرعية ومقاصدها |  مجلة المجتمع الكويتية
التحالفات في السياسية الشرعية ومقاصدها | مجلة المجتمع الكويتية
في مجال السياسة الشرعية، رأى العلماء أن أكبر قاعدة...
mugtama.com
×


تحالف قريش لحصار المسلمين قبل الهجرة

عقد ابن هشام في السيرة النبوية خبر حصار المسلمين في شِعَب أبي طالب تحت عنوان «تحالف الكفار ضد الرسول»، وقد تناولت مصادر السيرة النبوية ذلك التحالف بأن قريش لما رأت أمر النبي صلى الله عليه وسلم يعلو أجمعوا أن يتعاقدوا على فرض حصار كامل على بني هاشم، وبني المطلب، وبني عبد مناف؛ ألا يبايعوهم ولا يناكحوهم ولا يكلموهم ولا يجالسوهم حتى يسلموا إليهم النبي صلى الله عليه وسلم، وكتبوا بذلك صحيفة وتعاهدوا على ذلك، وعلقوها في جوف الكعبة توكيدًا لذلك الأمر.

وأقام المسلمون على ذلك البلاء 3 سنين لا يصل إليهم شيء إلا سرًا، ونالهم الجوع والعناء، وبلغ منهم الجهد حتى كان يسمع صوت أطفالهم يبكون من شدة الجوع.

حتى قام في نقض الصحيفة نفر من قريش أبت نوازع الإنسانية أن يستمر ذلك الحصار، وكان أحسنهم بلاء هشام بن عمرو بن الحارث، وانضم إليه نفر من سادة قريش كزهير بن أبي أمية المخزومي، والمُطْعم بن عدي، وأبي البختري بن هشام، فلما أصبحوا أقبل زهير على الناس لنقض ذاك التحالف وإفساده؛ فقال: يا أهل مكة، أنأكل الطعام ونلبس الثياب، وبنو هاشم هلكي لا يبتاعون ولا يبتاع منهم؟ والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة، ولم يبرح هو ورفاقه مكانهم حتى انشق عُرى ذلك الحلف وانتهى حصار المسلمين(7).

وقد حفظ النبي صلى الله عليه وسلم لأبي البختري بن هشام صنيعه في هذا اليوم، فلما كانت معركة «بدر» أمر أصحابه ألا يقتلوه لموقفه هذا، وهكذا تجلت نوازع الإنسانية أن يقبل بعض العرب أن يصمتوا عن الظلم، أو الحصار والتجويع لمن يعادونهم.






_________________________

(1) فتح الباري، كتاب فرض الخمس، باب ما من النبي صلى الله عليه وسلم على الأسارى من غير أن يخمس، ج 6 ص279، (2970).

(2) النويري: نهاية الأرب في فنون الأدب، ج1، ص 109.

(3) شرح صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة ، باب مؤاخاة الرسول صلى الله عليه وسلم بين أصحابه، (2530).

(4) ابن هشام: السيرة النبوية، ج1، ص92، مسند أحمد، مسند عبدالرحمن بن عوف، ج2، ص158، (1655).

(5) جواد علي: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، ج 5، ص373.

(6) ابن الأثير: الكامل في التاريخ، ج1، ص601، (6012).

(7) السيرة النبوية لابن هشام، ج1، ص350؛ الكامل في التاريخ، ج1، ص682.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

جميع الأعداد

ملفات خاصة

مدونة