التحالفات في السياسية الشرعية ومقاصدها


في مجال السياسة الشرعية، رأى العلماء أن أكبر قاعدة تقوم عليها هي جلب المصالح ودرء المفاسد، بل إن هذه القاعدة هي التي أدار عليها الإمام العز بن عبدالسلام أحكام الشريعة كلها، وجعلها نظريته في رؤية الشريعة؛ أحكاماً ومقاصد.  

وليس معنى هذا ترك الحبل على الغارب في مجال السياسة للمصلحة، كما أنها ليست أي مصلحة لحزب أو جماعة أو دولة أو جهة أو هيئة، وإنما هي المصلحة الشرعية التي حددها الشرع؛ فنحن هنا لا نُخضع مجال السياسة الشرعية بهذا القول للأهواء والأغراض الشخصية، ولا للتشهي والهوى، وإنما نأوي فيه لركن شديد، وهو أحكام الشرع والمصالح التي حددها هو لا البشر، كما أن هناك أحكاماً تفصيلية في السياسة الشرعية. 

ومن قضايا السياسة الشرعية المهمة قضية التحالفات السياسية التي تعقدها الدول والحركات والأحزاب مع غيرها، سواء أكانت الجهة المتحالف معها مسلمة أم غير مسلمة.  

تعريف التحالف:  

والتحالف في السياسة الشرعية هو: اتفاق بين طرفين لتحقيق المصلحة العامة، وقد قال في النهاية: أصل الحلف: المعاقدة والمعاهدة على التعاضد والتساعد والاتفاق، فما كان منه في الجاهلية على الفتن والقتال بين القبائل والغارات فذلك الذي ورد النهي عنه في الإسلام بقوله صلى الله عليه وسلم: «لا حلف في الإسلام»، وما كان منه في الجاهلية على نصر المظلوم وصلة الأرحام كحلف المطيبين وما جرى مجراه، فذلك الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: «وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة»؛ يريد من المعاقدة على الخير ونصرة الحق، وبذلك يجتمع الحديثان، وهذا هو الحلف الذي يقتضيه الإسلام، والممنوع منه ما خالف حكم الإسلام.  

إذن التحالف في رؤية السياسة الشرعية هو الاتفاق القائم على وفق أحكام الشريعة لتحقيق مصالح المسلمين العامة، ودفع المفاسد عنهم.  

حكم إبرام التحالفات السياسية في ضوء القرآن والسُّنة: 

الأصل في عقد التحالفات وإبرامها هو الجواز؛ لأن الأصل في الأشياء الإباحة، وهذه معاملة وليست عبادة مدارها على تحقيق مصالح المسلمين؛ فهو أمر جائز، سواء أكان بين المسلمين، أم بين المسلمين وغيرهم.  

ولكن قد يرقى حكم هذه التحالفات إلى المندوب وقد يصعد بها إلى درجة الواجب إذا تعين عمله، وإذا لم يكن هناك تحقيق لمصالح المسلمين إلا من خلاله، أو إذا تعين في دفع ضرر محقق عنهم.  

والقرآن الكريم ذكر العهود والاتفاقيات والمواثيق، قال تعالى آمراً بالوفاء بها: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ) (المائدة: 1)، وقال تعالى مبيناً أنها من صفات المؤمنين: (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ) (البقرة: 177)، وقال عز شأنه: (إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىَ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ) (النساء: 90)، وقال جل وعز: (وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (الأنفال: 72)، فكل هذا الحشد من الآيات التي ذكرت العهود والمواثيق صراحة تدل بشكل قاطع على مشروعية التحالفات والعهود. 

التحالف في السياسة الشرعية الاتفاق ‏وفق أحكام الشريعة لتحقيق مصالح المسلمين ودفع ‏المفاسد عنهم 

أما السُّنة النبوية، فقد حضر النبي صلى الله عليه وسلم حلف المطيبين أو ما عرف بـ«حلف الفضول»، وسمي بالفضول لأن الفضلاء اجتمعوا فيه بعد «حرب الفجار» بأربعة أشهر، وقد كان لنصرة المظلوم؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم عنه: «لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفاً ما أحب أن لي به حمرَ النعم، ولو أُدعى به في الإسلام لأجبتُ».  

وقد دخل النبي صلى الله عليه وسلم في تحالفات مع اليهود ثم قاتلهم وأجلاهم عن المدينة بسبب خياناتهم ونقضهم للعهود كما هي عادتهم، وحالف خزاعة، وعاهد بني غطفان على ثلث ثمار المدنية لينصرفوا عنها ويتركوا حصارها يوم «الأحزاب».. وغير ذلك، فكل هذه الوقائع النبوية تفيد أن التحالفات والمعاهدات أمر مقطوع بحجيته ومشروعيته التي تستمد من صريح نصوص القرآن، وصحيح أخبار السُّنة وأحداث السيرة النبوية.  

مقاصد عقد التحالفات في السياسة الشرعية: 

لإبرام هذه التحالفات مقاصد وغايات تسعى لتحقيقها، إذا ما كانت على وفق أحكام الشرعية المستنبطة من نصوص القرآن والسُّنة، والمستقاة من ورحها ومقرراتها العامة، ومن أهم هذه المقاصد:  

أولاً: ترسيخ معنى السماحة والسعة في أحكام الشريعة الإسلامية:  

إن إباحة الشريعة لعقد التحالفات السياسية بين المسلمين والمسلمين، وبين المسلمين وغيرهم، بل بين المسلمين وأعدائهم لدفع شر عدو أكثر عداوة، لهو أمر يدعو للفخر بهذه الشريعة والاعتزاز بها؛ إذا لا توجد مشكلة عندنا في عقد التحالفات ما دامت تحقق المصلحة الشرعية، والإسلام الذي أباح للمسلح الزواج من الكتابيات فلا يستغرب أن يجيز التحالفات مع المسلمين وغيرهم لتحقيق المصلحة المشروعة.  

ثانياً: تقوية صف المسلمين:  

يلجأ المسلمون إلى عقد هذه التحالفات لتقوية صفهم في مواجهة الأخطار التي تحدق بهم من أعداء هذه الملة والأمة.  

والصف القوي هو المطلوب من المسلمين، والله تعالى يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيانٌ مرصوص، وهذه التقوية لصف المسلمين لها مقاصد تحققها، منها: إرهاب العدو وردعه عن بُعد، وفي هذا يقول الله تعالى: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ) (الأنفال: 60)؛ فعقد هذه التحالفات لها أثر في إخافة العدو ومنع ضرره وقطع شره.   

ثالثاً: تحقيق النصر للإسلام والمسلمين:  

هذه ثمرة مترتبة على الثمرة التي قبلها، وهو أنه إذا ما قوي صف المسلمين فإنهم يكونون إلى النصر أقرب، ولا شك أن تحقيق النصر مقصد من مقاصد التحالفات التي يقوم بها المسلمون لتحقيق مصالحهم. 

يلجأ المسلمون إلى عقد هذه التحالفات لتقوية صفهم في مواجهة الأخطار التي تحدق بهم من أعداء الأمة 

ونحن نؤمن أن النصر بيد الله تعالى وليس بيد البشر، ونؤمن كذلك أنه مع الأخذ بالأسباب المستطاعة فلا يمكن الاعتماد عليها بوصفها هي الأمر الفصل في تحقيق النصر، قال تعالى: (وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ِ) (آل عمران: 126). 

رابعاً: تقليل المفاسد والأضرار وتعظيم المصالح والمنافع:  

أصل إباحة الشريعة للتحالفات السياسية هو دفع المفاسد وجلب المصالح، وهذا أصل عظيم في الشريعة، ليس في السياسة الشرعية أو التحالفات منها فقط، وإنما هو أمر عام في كل باب من أبوابها، يقول الإمام ابن تيمية: «الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها، وإلا فمن لم يوازن ما في الفعل والترك من المصلحة الشرعية والمفسدة الشرعية فقد يدع واجبات ويفعل محرمات».  

خامساً: توسيع دوائر العمل ونشر الدعوة:  

إذا كان من مقاصد التحالفات ترسيخ معنى سماحة الشريعة وإبراز مرونتها وسعتها، فإن هذه السعة تتجلى كذلك في آثار هذه التحالفات، وهي توسيع دوائر العمل، فمن سعة الشريعة أنها لم تقصر التعامل مع المسلمين، كما هي الحال عند اليهود مثلاً في بعض التصرفات، ولكنها فتحت آفاق العمل في أمور كثيرة منها الزواج من غير المسلمين، ومنها ما نحن بصدده وهو جواز التحالف مع غير المسلمين، حتى لو كانوا أعداء للأمة شريطة أن يندفع بالتحالف معهم شر عدو أكبر منهم، كما تقرر أن دفع أكبر الضررين وتحصيل أعظم المصلحتين من مقاصد الشريعة. 


الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة