من أوشفيتز إلى غزة.. التاريخ يعيد نفسه في الإبادة
مأساة آن فرانك وشهادات ضحايا أوشفيتز
لم تكن آن فرانك مجرد ناجية من جرائم الهولوكوست النازية في معسكرات أوشفيتز فحسب،
بل كانت يومياتها التي سَطَّرتها شاهدة على ما جرى في الفترة ما بين 1942 و1944،
لتوثق المشهد الماثل أمامها في ذلك الوقت، ثم لتفسح المجال لمن يقرأ يومياتها
للمقارنة بين ما يجري في عالمنا من قتل الإنسان وحرقه وتجويعه: "لقد كان
الناس يموتون بالغاز، أو يدفعهم الجنود للخروج في ساحات المعسكر ليقتلوهم، ومن
يطلب الماء والطعام يجبرونه على السير لمسافة ثم يطلقون عليه الرصاص وهم يضحكون،
ومثلهم الذين يموتون بسبب الجوع والعطش وهم الأكثر" (يوميات آن فرانك.. بتصرف
بسيط).
جرائم النازية والصهيونية.. تشابه مروع في التفاصيل
وفي كتابه "إن كان هذا إنسانًا"، يخبر الكيميائي الإيطالي بريمو ليفي عن سلسلة من الجرائم الوحشية النازية التي لا تختلف بحال عن الوحشية الصهيونية: "لقد كانت مشاهد الرجال وهم عراة محشورون في مكان ضيق يفتح عليهم الجندي باب الغرفة ليهجم الزمهرير عليهم بلا رحمة، أتذكر أولئك الذين يموتون من الجوع وهم عراة، والذين يشربون من تلك الحنفية التي كتب عليها تحذير من عدم شرب الماء".
لقد كان الجوع والعطش والمرض في سباق إلى أجساد أولئك المعذَّبين، يقول في وصف مختصر لكل تفاصيل المعاناة: "لقد كتبوا على مدخل المعسكر: أيها الداخلون اطرحوا عنكم كل أمل". وعليك أن تقارن هذا القتل الممنهج، والجماعي، واستخدام سياسة التجويع مع ما يعانيه أهل غزة من الصهيونية التي تكرر الجرائم النازية في هذا العصر.
غزة وأوشفيتز.. الحصار والإبادة يتكرران
إن
أوشفيتز النازية لا تختلف في شكلها ولا مضمونها عن غزة أوشفيتز الصهيونية التي
تفرض حصارًا قاتلًا، وتستخدم آلة القتل مع أولئك الذين يتسابقون للنجاة والبحث عن
الطعام والشراب. الصهيونية اليوم تجدد ذات النكبة والحصار والقتل مع الفلسطينيين
العزل بدءًا من دخول الكتيبة الهندية لبيت المقدس وحصارها للمسجد الأقصى وقتلها
للمسلمين فيه بعد حصار دام أيامًا، ومعركة القسطل وما صاحبها من تخاذل عربي ظهر
واضحًا بانتظار المجاهدين للجيش العربي ودخوله القدس.. ولكن لم يأتِ بعد، لتَحين
بعده النكبة الطاحنة 1948، والشتات والقهر الملازم للفلسطينيين طوال الثمانين
عامًا الماضية، حتى أزمات الحروب ومسلسل القتل والحصار المستمر، وانتهاءً بغزة وما
تبعها من أحداث.
يقول
بريمو ليفي في مذكراته: "لقد جمعوا الرجال في غرفة وكان عددهم 96 والنساء في
غرفة وكان عددهم 29 والأطفال في الخارج يشاهدون نسف الضابط النازي الغرف بمن
فيها". ألا يتشابه هذا مع ما يقوم به الصهاينة من هدم وقتل وقهر؟
تشظي النموذج الغربي وفقدان القيم
على مدار عقود طويلة كانت الحضارة الغربية تفتخر بنموذجها الذي قام على أفكار مارتن لوثر للحرية والمساواة، وروسو في الحقوق والعدل، ونظم ديفيد هيوم لبناء الدولة والسياسة والديمقراطية وحماية الإنسان وحقوقه، وغيرهم، حتى أصبح هذا النموذج محل تأثير واسع على النخب الفكرية العربية والمسلمة، إلا أن هذا النموذج وما أنتجه من حضارة أصابه التشظي، وتداعى إلى هوة سحيقة بين ما ينادي به وبين ما يشاهده ويغض الطرف عنه، وبين ما يدافع عنه بانتقائية وازدواجية مشهودة ومعهودة.
لا
أعرف لماذا تذكرت مقولة الكاتب والروائي البرتغالي:
"أي
عالم هذا الذي يستطيع إرسال السفن الفضائية للمريخ، بينما لا يفعل شيئًا لوقف قتل
إنسان"؟!
فهو
في هذا التساؤل العميق يفصح عن المفارقة الغريبة بين ما ينادي به النموذج الغربي
وما وصلت إليه الحضارة الغربية وبين ما يحدث اليوم، فهي تركض نحو السماء وتخترق
المسافات ولكنها عاجزة عن اختراق التناقض في نموذجها، ورأب الصدع البشري وحماية
النموذج الأخلاقي للإنسان.
إن
النموذج الغربي يتعثر بالقيم التي كان ينادي بها، ويتلفع بنفس السواد الذي حاربه،
وينادي بالعدل والمساواة وهو قد دخل بالكفر وقد خرج به:
"الحضارة
الغربية غير قادرة على مواجهة نفسها وعلى مواجهة الحقيقة، فالمتحدثون لا يكفون عن
الثرثرة عن حقوق الإنسان وحقوق المرأة وحقوق الطفل والقطط والكلاب... إلخ،
فالحضارة
الغربية بمقاييسها غير العادلة هي التي شاهدت وعاصرت إبادة السكان الأصليين في
أمريكا الشمالية، واستمرت حتى عصرنا الحديث في فيتنام والبوسنة والهرسك
والشيشان" (تاريخ الفكر الصهيوني. المسيري).
ولقد
بَسَطَ المسيري رحمة الله عليه في كتابه هذا العلاقة بين الصهيونية والنازية،
والتشابه في السردية والمرجعية بين الصهيونية والفاشية.
وإن
تعجب فعجب من تمسك الصهاينة واليهود بالمرجعية، واحتكامهم لما في كتاب هرتزل
"الدولة والإنجيل الصهيوني"، ورجوعهم الدائم لكل الأيديولوجيات المؤسسة
للكيان الصهيوني والتي تقوم على كره الإنسان واحتقاره، والقتل والسلب، وتقديس
النموذج (انظر بتوسع كتاب جارودي: "الأساطير المؤسسة للسياسة
الإسرائيلية").
المرجعية الدينية في فهم الصراع مع الصهاينة
وفي
المقابل يتخلى المسلمون عن المرجعية الدينية، بل ويقبلون بتحوير القضية الفلسطينية
من قضية اغتصاب للأرض، واستيطان وتدنيس للمقدسات، إلى قضية عربية، وشأن فلسطيني
يديره المتنازعون على المال والسلطة، وما ذاك إلا بغياب المرجعية العقدية التي
تشرح وتفسر ماهية العلاقة بين المسلم واليهودي المغتصب، وبين اليهود والصهاينة والإسلام
بشكل عام كدين وانتماء.
ويؤكد
هذا ويعضده حينما جاء جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم بعد غزوة الخندق
وقد شاهد المسلمون خيانة اليهود الواضحة والمعتادة: "يا محمد هل وضعت السلاح؟
والله ما وضعنا السلاح"، وأمره أن يخرج إلى بني قريظة وأشار له عن مكانهم
(تهذيب سيرة ابن هشام)، ليفهم المسلم المرجعية في طبيعة التعامل مع الخونة
والغاصبين والمجرمين.
وفي
ذات السياق أيضًا تبرز المرجعية منه عليه الصلاة والسلام وهو يعقب على حكم صاحبه
البر المجاهد سعد بن معاذ رضي الله عنه: "لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع
سموات" (تهذيب سيرة ابن هشام)، تأمل في قوله عليه الصلاة والسلام: "حكمت
فيهم بحكم الله..." لتفهم منه قداسة المرجعية الدينية وأهميتها في فهم الصراع
مع الصهاينة المحتلين واليهود الغاصبين، قبل أن تضيع القضية في زحام التنازلات
وغثاء المفاوضات، لأن المرجعية الدينية في الصراع القائم تحفظ تصور المسلم ويستنير
بها مفهوم الولاء والبراء فيما يتعلق تحديدًا بالحالة اليهودية.
إن
غياب المرجعية هو الذي سمح - وعوامل أخرى - بتحول القضية من اغتصاب وتعدٍّ على
المقدسات إلى شأن فلسطيني، قذفت بأهله صروف الخلافات والنزاعات بين رجال يجاهدون
ويناضلون، وآخرون يخونون ويفاوضون... حتى انتهى المطاف بحل الدولتين ولا دولتين،
وكلما تنازل العرب ازداد الصهاينة صلفًا وبطشًا.
لقد
خرَّ النموذج الغربي في أزمة غزة من سماء العلم والوعي والحضارة، لتخطفه طيور الغي
والبغي والانتقائية فتهوي به ريح الغواية الغربية في مكان سحيق.