كيف أسقطت الإبادة والتجويع في غزة سردية المظلومية الصهيونية الكاذبة؟

إياد القطراوي

29 يوليو 2025

143

كشفت الحرب على غزة زيف الرواية الصهيونية المبنية على «الهولوكوست»، حين تحولت دولة الاحتلال، التي قدمت نفسها على مدار عقود من وجودها أمام العالم على أنها ضحية ومظلومة، إلى جلاد يمارس أبشع أشكال القتل والتطهير أمام مرأى ومسمع العالم، الذي يتغنى بالديمقراطية وحقوق الإنسان.

حين يتعلق الأمر بدولة الاحتلال، تَصمت الأفواه، وتُصمّ الآذان، ويتغافل الغرب عن ممارساتها بل ويتماهى معها، كأن الضحية لا تُرى إن لم تكن تنتمي إلى معاييرهم العنصرية، يصبح القتل دفاعًا عن النفس، والقصف والتدمير والتجويع إجراءً مشروعًا، يُعاقَب المظلوم على صموده، ويُكافأ الظالم على بطشه، في مشهد يُعري العدالة ويجردها من معناها.

لم تعد ذاكرة الألم في غزة مبررًا للصمت على الجرائم، بل أصبحت غطاءً أخلاقيًا زائفًا يُشرعن الاحتلال والعدوان، فما يجري عرّى ازدواجية الخطاب الغربي، الذي يبرر المجازر متى كان القاتل حليفًا، وسقط قناع الإنسانية حين واجه الحقيقة صوتُ الأطفال تحت الركام.

لماذا فشلت الرواية الصهيونية؟ |  Mugtama
لماذا فشلت الرواية الصهيونية؟ | Mugtama
الأحد 31 مارس الماضي، وبعد مرور أكثر من 170 يومًا...
mugtama.com
×

سقوط سردية المظلومية الصهيونية من الداخل

في تطور غير مسبوق في الخطاب الصهيوني والغربي تجاه ما يحدث في غزة، تتعالى أصوات من داخل النخبة السياسية والعسكرية والفكرية في دولة الاحتلال، ومن دوائر إعلامية غربية نافذة، تعترف صراحة بأن سردية المظلومية التي رافقت الكيان منذ نشأته بدأت بالانهيار، ليس هذا فحسب، بل إن ما يُنظر إليه تاريخيًا على أنه تفوق أخلاقي صهيوني، يبدو اليوم كرماد يتناثر في وجه العالم، بعد أشهر من مشاهد الإبادة والتجويع والتدمير الشامل في غزة والضفة الغربية.

فمنذ تأسيسها عام 1948م، اعتادت دولة الاحتلال الصهيوني بناء شرعيتها الأخلاقية على سردية الضحية والمظلومية والملاحقة من الأعداء، استنادًا إلى المحرقة النازية (الهولوكوست)، ولم تكن هذه السردية تاريخية فقط، بل تحولت إلى أداة سياسية متكررة لتبرير الحروب، والقتل، والحصار، والتجويع ضد الشعب الفلسطيني، الذي احتُلت أرضه وشُرّد شعبه وهُجّر من دياره.

لكن ما الذي تغير الآن؟

تحدّث مثقفون وإعلاميون يهود في الغرب بنبرة قريبة، بل أكثر عمقًا، أحدهم قال: ألفا عام عشنا على سردية المظلومية التي تعرضنا لها، والآن تنهار هذه السردية أمام مشاهد الإبادة والتجويع في غزة، لقد سقطت سرديتنا التاريخية أمام غزة.

مسؤولون سابقون في الجيش و«الموساد» بدؤوا يعترفون بأن ما جرى في غزة من حرب وتدمير وقتل وإبادة وتجويع لا يمكن تبريره بحق الدفاع عن النفس، بل تعداه إلى تكريس الروح العدوانية في الانتقام والقتل لمجرد القتل والتهجير.

اعترافات داخلية تسأل: كيف سنعلّم أبناءنا أن نكون إنسانيين، ونحن الذين سمحنا بهذا الدمار والقتل؟! كيف سنقنعهم أننا صمتنا أمام القتل والتجويع وممارسات حكومتنا وجيشها ضد المدنيين العزل في غزة؟! وكيف غضضنا الطرف عن جرائم الحرب التي يرتكبونها؟!

شخصيات بارزة من اليمين الصهيوني نفسه (مثل عاموس جلعاد، وميكي زوهر) تحدثوا علنًا عن أن دولتهم فقدت قدرتها على التأثير في الرأي العام العالمي أمام المجازر اليومية وسياسة التجويع، كما كانت تفعل سابقًا.

حاخامات وكتّاب يهود أمريكيون وقعوا عرائض تصف ما يحدث في غزة بجرائم ضد الإنسانية، وتطالب بوقف الدعم العسكري الأمريكي لدولتهم.

نشطاء يهود في حركة «Jewish Voice for Peace» الصوت اليهودي من أجل السلام شاركوا في اعتصامات داخل الكونغرس الأمريكي، قائلين: هذه ليست دولتنا التي تعلمنا أن ندعمها.

كتّاب كبار مثل الصهيوني الليبرالي بيتر بينارت أعلنوا أنهم لم يعودوا يؤمنون بدولة يهودية على حساب الفلسطينيين.

حرب التجويع في غزة! |  Mugtama
حرب التجويع في غزة! | Mugtama
جريمة العصر التي ترتكبها «إسرائيل» سيسجلها التاريخ كواحدة من أبشع الجرائم ضد الإنسان والأحياء في غزة، وسيسجل التاريخ أن الغالبية العظمى من دول العالم وخصوصًا العربية والإسلامية منها قد خذلت غزة
mugtama.com
×

السنوار.. وخطة عزل دولة الاحتلال

رئيس حركة «حماس» سابقًا الشهيد يحيى السنوار كان من القلائل الذين قرؤوا التحول العالمي بعين ثاقبة وإستراتيجية ناضجة، فعندما قال: أمام دولة الاحتلال خياران، إما أن توافق على السلام وإقامة دولة فلسطينية، وإما سنجعل العالم ينبذها ويفرض عليها ذلك، لم يكن يقصد فقط التضامن الإنساني، بل كان يشير إلى:

- تصاعد وتعاظم حركات المقاطعة الاقتصادية والأكاديمية والثقافية.

- الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني في أرضه والدفاع عنها.

- تقارير الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية التي تتهم دولة الاحتلال رسميًا بارتكاب جرائم حرب.

- محكمة الجنايات الدولية التي فتحت بالفعل ملفات عن الانتهاكات وجرائم الحرب الصهيونية في غزة والضفة الغربية.

هذا الضغط، وإن بدا بطيئًا، هو في الواقع تراكمي ويهدد بفرض عزلة سياسية واقتصادية على دولة الاحتلال، شبيهة بما حصل لنظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا.

‏«الطوفان» كمرحلة مفصلية |  Mugtama
‏«الطوفان» كمرحلة مفصلية | Mugtama
كان يوماً مشهوداً فرحت به مئات الملايين من قلوب ا...
mugtama.com
×

المعركة الإعلامية وكسر التعتيم

لطالما حرصت دولة الاحتلال على حظر الصحافة المستقلة من دخول غزة أثناء الحروب، لكن الوضع الآن مختلف:

- وزير الخارجية الفرنسي جون نويل بارو قال صراحة: يجب السماح للصحافة الأجنبية بدخول غزة فورًا لنتعرف الى الحقيقة والرواية الصادقة.

- الأمم المتحدة طالبت بإرسال لجان تحقيق دولية مستقلة إلى الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية وغزة للتحقيق في انتهاكات الحكومة الصهيونية وممارسات جنود الاحتلال.

- صحفيون من «BBC»، «Channel 4»، و«New York Times» و«Al Jazeera»، نشروا تقارير مبنية على لقطات مسرّبة وموثقة، أظهرت قصف المستشفيات والمدارس، وقتل المدنيين، واستخدام التجويع كسلاح.

هذا يعني أن دولة الاحتلال لم تعد تسيطر وحدها على السردية الإعلامية، وهو تطور إستراتيجي يغير قواعد اللعبة.

الهجرة العكسية.. كابوس مزعج للكيان الصهيوني |  Mugtama
الهجرة العكسية.. كابوس مزعج للكيان الصهيوني | Mugtama
فتحت عملية «طوفان الأقصى» الباب على مصراعيه أمام أ...
mugtama.com
×

الهجرة العكسية من دولة الاحتلال

ربما هذا من أخطر المؤشرات على الداخل الصهيوني:

- تقارير نشرتها صحف مثل «هاآرتس» و«يديعوت أحرونوت» تشير إلى ارتفاع في طلبات الهجرة العكسية، خاصة من اليهود ذوي الأصول الأوروبية.

- شباب يهود يرفضون الخدمة العسكرية، أعربوا عن عدم قدرتهم على التعايش مع دولة ترتكب جرائم حرب كبرى، ويفكرون جديًا في الهجرة والابتعاد عن دولة لم تعد تمثلهم أخلاقيًا ولا إنسانيًا.

- محللون صهاينة ويهود تحدثوا عن موجة تدهور ثقة داخلية بالقيادة السياسية والعسكرية، بسبب الفشل في تحقيق الأهداف من حرب غزة، وفقدان الدعم الدولي.

ما الذي يعنيه هذا للشعب الفلسطيني؟

- لأول مرة منذ عقود، تتقدم الرواية الفلسطينية في الغرب، ليس عبر الخطابة فقط، بل بالوثائق والصور والشهادات الحية.

- دولة الاحتلال أصبحت لأول مرة منذ نشأتها في موقع المتهم أخلاقيًا وسياسيًا.

إن تم البناء الإستراتيجي على هذه اللحظة، يمكن الدفع نحو فرض حل سياسي عادل، أو على الأقل فرض ثمن باهظ على الاحتلال، وتحقيق رؤية السنوار المزدوجة: تعريتها، ونبذها، وإجبارها على الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني.

إن هذا التصدع في الرؤية الصهيونية العالمية يعكس صدمة هوية حقيقية، لا على مستوى الرواية التاريخية فقط، بل في المشروعية الأخلاقية التي بُنيت عليها الدولة العبرية.

المشهد السياسي العالمي ما بعد الحرب

ليس ما يحدث في غزة مجرد مأساة إنسانية، بل هو تحول جذري في المشهد السياسي العالمي، دولة الاحتلال لم تعد قادرة على تسويق نفسها كضحية، ولا يمكنها بعد اليوم أن تحتكر الشرعية الأخلاقية كما فعلت في العقود السابقة.

إن الجرائم التي ارتُكبت أمام عدسات العالم، ومواقف النخب اليهودية والغربية الرافضة، قد تكون بداية لانقلاب في سردية الصراع، يعيد للفلسطينيين موقعهم كضحايا حقيقيين، وينزع عن دولة الاحتلال قناعها الأخلاقي الزائف.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة