سؤال الإعجاز: أين يقف كلام الله بين فنون القول العربي؟

د. كمال عبد البر

13 نوفمبر 2025

131

تراوح كلام العرب على مر العصور بين فنين رئيسين، هما: المنظوم (الشعر) والمنثور (النثر)، وعندما نزل القرآن الكريم بلسان عربي مبين، يتحدى العرب صراحة، وهم سادة البيان، نشأ السؤال الأكبر الذي شغل النقاد والبلاغيين: ما منزلة القرآن الكريم بين هذين الفنين؟ وما علاقته بنصوص العرب المأثورة عنهم شعرًا ونثرًا؟

إن البحث في هذه المنزلة لا يتعلق بتصنيف أدبي فحسب، بل هو إقرار بكنه الإعجاز ومصدر التفرد الذي أخرس بلغاء العرب، وأعجز فصحاءهم.

الشعر والقرآن.. حسم العلاقة وانبتات الصلة

أما فن العرب الأكبر، وعلمهم الذي لم يكن لهم علم سواه (الشعر)، فإن القرآن نفسه قد حسم علاقته به، ونفاها نفيًا جازمًا؛ إذ نزَّه الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم عن قول الشعر، ونزَّه كتابه عن أن يكون شعرًا، فقال تعالى: (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَه إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرآنٌ مُبِينٌ) (يس: 69)، وقال تعالَى: (وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ ۚ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ) (الحاقة: 41).

فهاتان الآيتان وغيرهما تنفيان أي علاقة بين القرآن الشعر، وبهما ينتفي أي شك في أن يكون نظم القرآن محاكاة للشعر، أو تقليداً لأساليب العرب في فنونهم القولية، وقد شهد بذلك أولو الرأي في قريش، كالوليد بن المغيرة؛ حين سمع القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم فأقر بأنه قول مختلف تمامًا عما ألفوه من شعر الجاهلية، ومن ثم، بقيت علاقة القرآن بالنثر، وهو الضرب الآخر من كلام العرب موضع جدال وأخذ ورد.

جدلية العلاقة بين النثر والقرآن

لا يوجد نص صريح حاسم يوضح علاقة القرآن بالنثر، ولذلك لم تتفق إجابة العلماء عن هذا السؤال: هل القرآن نثر؟

ويمكن إيجاز مواقفهم في اتجاهين متعارضين ظاهرًا، وإن انتهيا إلى نتيجة واحدة؛ خلاصتها الإعجاز والتفرد:

الموقف الأول: القرآن نص متفرد (قرآن فحسب):

تبنى هذا الرأي نخبة من النقاد والعلماء، أشهرهم د. طه حسين؛ حيث رأى أن القرآن الكريم جنس أدبي منفرد لا يمكن أن يسمى بغير هذا الاسم؛ حيث يقول تحت عنوان «القرآن بين النثر والشعر»: «ولكنكم تعلمون أن القرآن ليس نثرًا، كما أنه ليس شعرًا، إنما هو قرآن، ولا يمكن أن يسمى بغير هذا الاسم.. ليس نثرًا لأنه مقيد بقيود خاصة به لا توجد في غيره، وهي هذه القيود التي يتصل بعضها بأواخر الآيات، وبعضها بتلك النغمة الموسيقية الخاصة».

هذا الرأي يرى أن القرآن وحيد في بابه، لم يكن قبله ولا بعده مثله، وهو نص إلهي لا يقاس بكلام البشر، وإن اشتمل على بعض خصائص البيان العربي.

الموقف الثاني: القرآن نثر فني وشاهد على الجاهلية:

في المقابل، جزم د. زكي مبارك بأن القرآن نثر فني، منطلقًا من ضرورة الرد على المستشرقين أمثال وليم مرسيه الذي زعم أن عرب الجاهلية لم يعرفوا النثر الفني، وقد رأى مبارك أن القرآن أكبر شاهد على وجود هذا النثر؛ حيث يقول: «فليعلم القارئ أن لدينا شاهدًا من شواهد النثر الجاهلي يصح الاعتماد عليه وهو القرآن، ولا ينبغي الاندهاش من عدِّ القرآن أثرًا جاهليًّا، فإنه من صورِ العصر الجاهلي؛ إذ جاء بلغته وتصوراته وتقاليده وتعابيره..».

نظرة نقدية للرأي الثاني

علينا أن نفترض حسن النية في مبارك في دفاعه عن النثر العربي ودحض شبهات المستشرقين، غير أن وصفه القرآن بأنه «أثر جاهلي» بحاجة إلى مراجعة، وإعادة نظر؛ إذ كيف يكون القرآن «أثرًا جاهليًّا» وقد نزل ليخرِجَ العربَ مِنْ ظُلمات الجاهلية؟! وإنما القرآن هو كلام الله الذي لا يحده زمان أو مكان، وقد نزل بلغة العرب ليكون أبلغ في الإعجاز وأكثر ملاءمة لواقع المتحدين به.

ولعل الرافعي كان أكثر توفيقًا في تعبيره عن تلك الحقيقة حين قال: «هذا الكتاب الكريم أثر غيبي كان في علم الله قبل كل الأزمنة؛ فهو يحويها كلها، وكأنه يوجد معها، وبذلك يتعين أنه هداية إلهية في أسلوب إنساني يحمل في نفسه دليل إعجازه، ويكون القرآن منفردًا في التاريخ بأنه منذ أنزل لا يبرح في كل عصر يظهر من ناحيتين صادقتين: ناحية الماضي، وناحية الحاضر».

الإعجاز الخالد.. أسمى من التصنيف البشري

إن الحقيقة التي يتفق عليها الجميع هي أن القرآن يتجاوز كل أطر التصنيف البشري، وهذا ما يجعلنا نرجح رأي التفرد المطلق الذي ذهب إليه طه حسين -مهما كانت بواعثه وغاياته- في قوله: «القرآن لا هو شعر ولا هو نثر، وإنما هو قرآن»؛ لأن كلام الخالق لا يصح أن يقارن بكلام المخلوقين.

لقد عجز العرب عن الإتيان بمثله في فني القول: الشعر والنثر، ولذلك يبقى نصًّا إلهيًّا متفردًا؛ (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) (هود: 1).

من شهادات أهل البلاغة

أدرك البلاغيون القدامى هذا التفرد وعبروا عنه تعبيرات شتى تؤكد أنهم قالوا ما اهتدى إليه حسين بمعناه دون ألفاظه، وهاكم بعضًا مما قالوه:

1- يصفُ عليُّ بن عيسى الرماني (ت 386هـ) في «النكت في إعجاز القرآن» القرآنَ قَائلًا: «وأما نقض العادة، فإن العادة كانت جاريةً بضروب من أنواع الكلام معروفة منها الشعر ومنها السجع ومنها الخطب.. فأتى القرآن بطريقة مفردة خارجة عن العادة لها منزلة في الحسن تفوق به كل طريقة».

2- كما يؤكدُ أبو بكر الباقلاني (ت 403هـ) أن «نظم القرآن على تصرف وجوهه واختلاف مذاهبه خارج عن المعهود من جميع كلامهم، ومباين للمألوف من ترتيب خطابهم، وله أسلوب يختص به، ويتميز في تصرفه عن أساليب الكلام المعتاد..».

3- ولأبي العلاء المعري (ت 449هـ) كلام بليغ في هذا المعنى حيث يقول: «وأجمعَ ملحِدٌ ومُهتدٍ، وناكبٌ عن المحجة ومُقتدٍ أنَّ هذا الكتاب الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم كتاب بَهرَ بِالإعجَازِ ولقي عدوه بالإرجازِ، مَا حُذِيَ عَلى مثالٍ، وَلَا أشبهَ غريبَ الأمثالِ، ما هو من القصيدِ الموزُونِ، ولا الرجزِ مِنْ سَهْلٍ وَحَزُونٍ، ولا شاكلَ خطابةَ العرب، ولا سجع الكهنة ذوي الأرب».

التميز حتى عن الحديث النبوي

لم يغب عن المحْدَثِينَ كذلك تفرد النص القرآني؛ ولهم في بيان ذلك التفرد كلام كثير؛ فقد أشار الشيخ رشيد رضا في كتابه «الوحي المحمدي» إلىٰ بعض فرائد النظم القرآني، ثم عقب عليها فوصفها بأنها «مما لا نظير له في كلام البشر من خطابةٍ ولا شعرٍ ولا رجزٍ ولا سجعٍ، فهذا الأسلوب الرفيع في النظم البديع، وبلاغة التعبير الرفيع، كان القرآن كما ورد في معنىٰ وصفه أنه لا تبلىٰ جدته، ولا تُخلقه كثرة الترديد».

وقد بلغ تفرد القرآن وتميزه أقصى المدى في رأي د. محمد عبدالله دراز، وهو محق؛ إذ أثبت تفرد القرآن عن أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أفصح العرب أجمعين، ومن ثم لا تصح مقارنة القرآن وهو كلام رب العالمين بأي كلام بشري، وإن كان كلامَ الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ يقول د. دراز: «نجد العرب علىٰ اختلاف دياناتهم يعترفون بالسمو والجلال والهيبة التي ينفرد بها النص القرآني لا بالنسبة للأدب العربي بوجه عام، ولكن حتىٰ بالنسبة لأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ذاته المعروفة ببلاغتها الرفيعة.. فجميع عبارات الرسول صلى الله عليه وسلم وجمله يتميز عنها النص القرآني تميزًا صَارِخًا».

تحرز يؤكد التفرد والإعجاز

حتى أولئك الذين جزموا بأن القرآن نثر، اضطروا في النهاية إلى «الاحتراس والتحرز»، ونصوا على تفرد القرآن وتميزه عن النثر البشري، وهذا الاستدراك هو الدليل القاطع على الإعجاز.

فالدكتور زكي مبارك نفسه، رغم جزمه بنثرية القرآن، أشار إلى أن النقاد درسوا القرآن دراسة «المُسَلِّمِ بتفردِهِ وتميزه»، ولم يدرسوه دراسةَ الناقِدِ الذي يختبر محاسِنَ العمل الأدبي وعيوبه، لأنه «المثلُ الأعلىٰ الذي تقف عنده حدود الطبيعة الإنسانية في البلاغة والبيان».

وكذلك رأى الشيخ محمد الزفزاف أن القرآن «من النثر الممتاز الذي تفرد بأعلىٰ ذروة فيه»، جامعًا إلى بلاغته القاهرة مزايا الشعر الساحرة دون قيود القافية والتفعيلات.

وفي الخلاصة، أكدت الأقوال السابقة، وإن اختلفتْ منازعها، تفرد القرآن الكريم، وأنه نسيج وحده، ومن ثم نقول: إن القرآن هو كلام الله المعجز الذي لا يستطيعُهُ بشرٌ وإن كان رسولًا يُوحَى إليه، ومن ثم فلا يصح أن يُصَنَّفَ كلامُ الله مثلَما يُصنَّفُ كلام البشر، أو كلام العرب إلى شعر أو نثر، وإنما هو «قُرآن»، وكفى.


 

 اقرأ أيضاً:

عروبة القرآن.. دلالة البيِّنة ومرامي التعقُّل والإنذار

الحكمة من اختيار الله تعالى اللغة العربية لتكون لغة القرآن الكريم

جدل الكلمات الأعجمية والدخيلة في القرآن الكريم

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

جميع الأعداد

ملفات خاصة

مدونة