العناد الطبيعي عند الأبناء (1)

طفلي عنيد! اكتشف لماذا العناد علامة صحة وكيف تتعامل معه

قد يقف الطفل الصغير أمام والديه بعينين متقدتين وإصرار عجيب، يرفض أن يرتدي ما اختاروه له، أو يصر أن يرتدي ملابسه بنفسه، أو يصر أن يمسك الملعقة بيده رغم عجزه عن استخدامها بإتقان!

وللوهلة الأولى قد يبدو الأمر بالنسبة للوالدين تحدياً أو عناداً مزعجاً، غير أن الحقيقة أعمق من ذلك، إنه صوت الفطرة وهي تنطق لأول مرة؛ إعلان بريء من الطفل أنه بات يدرك ذاته، وأنه لم يعد ظلاً لأحد.

فالطفل لا يولد عنيداً بمعنى العصيان، وإنما يولد باحثاً عن ذاته، مكتشفاً لحدود قدرته واستقلاله، إنه يقول بلسان صغير لا يعرف البلاغة: «دعوني أجرب، دعوني أختار، دعوني أكون»، ومن هنا لا يكون العناد في بدايته سلوكاً سلبياً، بل مرحلة وسمة طبيعية من مراحل النمو النفسي والعقلي، بل هو علامة صحة لا علامة خلل، لأنه يعبر عن إرادة تتفتح، وشخصية تحاول أن تعلن عن وجودها في عالم يغرقها بالتوجيهات.

لكن المشكلة تبدأ حينما يجهل المربي لغة العناد، فيقابله بقهر أو سخرية أو تهديد أو ضرب، فيتحول الصوت الطبيعي إلى صدام دائم، وصراخ عالٍ، ويتحول الإصرار البريء إلى عناد مرضي، يقول د، عبدالكريم بكار: «المشكل الذي يواجه الأسر في هذا السياق عدم امتلاك القدرة الكافية على التفريق بين العناد الطبيعي والصحي، والعناد الذي يحتاج إلى معالجة»(1)، أما حينما يفهم هذا العناد، ويحتضن، ويوجه، فإنه يصبح بذرة القوة في شخصية الطفل، وأول خطوة في طريق الاستقلال والرشد.

تعريف العناد الطبيعي عند الأبناء

هو سلوك نمائي مؤقت يظهر في مراحل الطفولة المبكرة، يعبر به الطفل عن رغبته في الاستقلال وإثبات الذات، ويعد جزءاً طبيعياً من عملية النمو النفسي والاجتماعي واللغوي، ولا يدل على اضطراب، ولا على سوء تربية ما دام في حدوده المقبولة.

متى يظهر العناد الطبيعي؟

يظهر العناد الطبيعي عند الأطفال غالباً في عمر السنتين، ويطلق على تلك المرحلة اسم «سن المقاومة»، حيث يميل الأطفال إلى رفض كل التعليمات، ووجود هذا السلوك دليل على النمو السوي للطفل، وقد غرس الله تعالى في النفس البشرية هذا النوع من العناد ليسهل للإنسان بناء شخصية قوية وسوية وسليمة، ويصبح الطفل وقتها يبحث عن الاستقلالية الجزئية، حيث يمارس هذه الاستقلالية من خلال الرفض، والاحتجاج، وإبداء الرأي المخالف حتى يؤكد ذاته.

ويزداد العناد حدة بين العام الثالث والرابع، ويستمر حتى سن 6 سنوات، لكن بعد سن الرابعة يقل تدريجياً إلى أن يختفي هذا لو تقبلنا هذا العناد وأحسنا التعامل معه في تلك المرحلة، ولا يظهر العناد قبل سن السنتين؛ لأن الطفل يكون حينها معتمداً اعتماداً كلياً على الأم، وبالتالي لا تظهر عليه السلوكيات الدالة على العناد بشكل واضح.

قد يعبر الطفل عن هذا العناد الطبيعي في هذه المرحلة بقوله: «لا»، وهذه الكلمة من المهم جداً ألا نكبح جماحها، وألا نقتلها في مهدها، خاصة في هذا التوقيت المهم، ولا نقابلها بالضرب ولا بالقسوة ولا بالعناد المضاد، بل لا بد من التعامل معها بحرفية وذكاء وحكمة.

يقول الاستشاري التربوي د. إبراهيم الخليفي: «من أول علامات الحياة الصحيحة للطفل أن يقول: «لا»، ومعنى هذا أنه يقاوم وأن لديه كيان، والذي لا يقول «لا» من الممكن أن يكون لديه توحد، أو مريض نفسي، أو لديه خلل في النمو، فمن علامات الصحة النفسية أن يقول: «لا»، وأن يعاند، وأن يقول لك: أقنعني، وأن يقول لك: لماذا تفرض عليَّ الملابس دون أن تقنعني.

ويظهر العناد الطبيعي أيضاً بقوة في مرحلة المراهقة، لا بوصفه عيباً في السلوك أو انحرافاً عن الطاعة، بل كعلامة على يقظة الذات وهي تتلمس طريقها نحو الاستقلال، فالمراهق حين يرفض، لا يرفض الأشخاص بقدر ما يرفض أن يساق دون رأي، وحين يعاند، فإنما يعلن بغير وعي أحياناً أنه بات يرى نفسه كياناً قائماً بذاته، ذلك العناد، وإن أرهق المحيطين به، هو في حقيقته تمرين على إثبات الهوية، ومحاولة لرسم ملامح «الأنا» في وجه عالم مليء بالأوامر والتوجيهات، وما بين الرفض والإصرار، تتشكل شخصية تبحث عن توازن بين الحرية والانتماء.

وقفة واعية

تقول أستاذة علم النفس الإكلينيكي د. ألفت حقي: «لا شك أن المربي الذي يسمح لطفله أحياناً بأن يرفض شرب أو أكل شيء بالذات، أو يسمح له بارتداء حذاء آخر غير الذي أُملي عليه أن يرتديه، لا شك أنه مربٍّ يعطي الطفل فرصة صنع القرار ولا يضره، بل هو يعطيه الفرصة أيضاً للتعبير عن ميوله الفردية الضرورية، نحن إذاً نقي أطفالنا المعاناة من الدكتاتورية ومن الأحكام المطلقة، إذا أتحنا للطفل فرص الاختيار أحياناً، على ألا يضره أو يضر الآخرين»(2).

نظرة التربية الإسلامية للعناد الطبيعي

والنظرة التربوية الإسلامية تنطلق في نظرها للعناد الطبيعي من منطلق فطري راق متوافق مع طبيعة النفس البشرية، فهي لا تنظر إليه كانحراف سلوكي، بل تنظر إليه كمرحلة نمو نفسي وروحي، تعبر عن حاجة الطفل إلى تأكيد ذاته، وتثبيت استقلاله، في إطار من التكريم الإلهي الذي خلق عليه الإنسان، فالإسلام لا يسعى إلى كسر الإرادة، بل إلى تهذيبها وتوجيهها، ولا ينظر للعناد الفطري كخصومة بين الكبير والصغير، بل كرسالة خفية من نفس نامية تبحث عن الاعتراف والتقدير.

ومن هنا، فإن المربي المسلم لا يقف عند ظاهر العناد، بل يفكر في دوافعه، ويتفهم لغته، ويتأمل في مصيره، فينظر إلى كلمة «لا» بمعنى «أنا أريد» أو «أقنعني أولاً»، ويصوغ من عناد الطفل جسراً نحو النضج لا حاجزاً من الصراع، وهذا ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم مع أنس بن مالك، يقول أنس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خلقاً، فأرسلني يوماً لحاجة، فقلت: والله لا أذهب، وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به نبي الله صلى الله عليه وسلم، فخرجت حتى أمر على صبيان وهم يلعبون في السوق، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قبض بقفاي من ورائي، قال: فنظرت إليه وهو يضحك، فقال: «يا أنيس، أذهبت حيث أمرتك؟»، قال: قلت: نعم، أنا أذهب، يا رسول الله(3).

فأنس كان غلاماً صغيراً دون العاشرة تقريباً، فلم يكن رفضه عناداً متعمداً، وإنما هو سلوك فطري من طفل منجذب إلى اللعب والحرية، والنبي صلى الله عليه وسلم تعامل مع الموقف بابتسامة لا بعصا، وبلمسة رحيمة لا بتوبيخ ولا بتهديد، بل خاطبه بلقب التصغير والتدليل «يا أنيس»، فغرس في قلبه الطاعة بالمحبة والرحمة لا بالخوف والترهيب.

فالنبي صلى الله عليه وسلم هنا يعلمنا أن الطفل لا يقاد بالأمر والشدة، بل بالمودة والرحمة، ولم يكسر الطفل بالضرب، بل وجهه برحمة ورفق جعلت من أنس الرافض لأنس البار المطيع، والحديث النبوي نقتبس منه فوائد وقواعد تربوية مهمة، منها:

  • أن العناد الطبيعي سلوك مؤقت نابع من فطرة حب الحرية.
  • العناد لا يحتاج للقسوة والشدة، بل يحتاج للحكمة واللين.
  • العناد لن يصلحه العناد والضرب، بل بالحب والإقناع.
  • التربية ليست رد فعل، وإنما فن واستيعاب.
  • الطاعة تُبنى بالمحبة لا بالإكراه.
  • الرفق أصل الإصلاح، وليس العكس.

فعلينا أن نتفهم نحن كمربين، أن ليس كل رفض تمرداً، ولا كل عناد عصياناً، فبعض العناد بذرة وعي تنبت استقلالاً، فاسقها بماء الحكمة واللين، ولا تقتلها بنار القسوة والجفاء.




_____________

(1) كتاب «مشكلات الأطفال»، ص92.

(2) كتاب «سيكولوجية الطفل» (علم نفس الطفولة)، ص184.

(3) صحيح مسلم.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة