الزاوية الميتة.. قراءات في أحداث غزة

د. أحمد طه

06 أغسطس 2025

355

«الزاوية الميتة» مصطلح معروف في تعلم قيادة السيارات وتسمى أيضا «الزاوية العمياء» وهي منطقة على الطريق لا يستطيع السائق رؤيتها بشكل مباشر من خلال مرايا السيارة أو بالنظر إلى الأمام أو الخلف، تستوجب الحذر الشديد والتأني في القرار قبل الندم أو وقوع الحوادث.

وفي مقالي هذا أتكلم عن الزاوية الميتة العمياء التي يقع فيها كثير من الناس اليوم فاقدو البصيرة والبصر، متعجلو القرارات الخاطئة أو متعمدوها، والتي تدل على قصور الفهم وغشاوة الرؤية، ونسيان مسلسل الأحداث، وقطعيات الأحوال، يحاولون تقطيع الأحاديث عن سياقها الطويل، وبنائها التدريجي المتكامل، فبهذا المقال أخاطب هؤلاء الذين يخرجون علينا كل يوم بتحليل الأحداث اليومية وخاصة أحداث أهلنا في غزة بسيل من تزييف الواقع، في المواقع، والمقالات، والتغريدات، وغيرها، الذين تعمدوا أو جهلوا رؤية الحقيقة الواضحة التي لا يتطرق إليها شك، ويعالجون الأمر بمنظور الزاوية الميتة أو الزاوية العمياء الظالمة والمظلمة في قلوبهم وعقولهم، وقد حدثنا القرآن الكريم بآيات متعددة على أصحاب هذه الزوايا الميتة، الذين يريدون أن يسووا دائما بين المتباعدين، ويجمعوا بين الشاطئين، ويلبسوا الحق بالباطل والباطل بالحق، ومن على شاكلتهم، من ذلك قوله تعالى: (أفنجعل المسلمين كالمجرمين، ما لكم كيف تحكمون) (سورة القلم:35)، وقوله تعالى: (أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار) (ص:28)، وقوله: (وما يستوي الأعمى والبصير. ولا الظلمات ولا النور. ولا الظل ولا الحرور. وما يستوي الأحياء ولا الأموات) (فاطر:19-22)، وقوله: (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كم آمن بالله واليوم الآخر لا يستوون عند الله) (التوبة:19)، وغير هذا من الآيات كثير، الهدف منها جميعا تحرير العقول من زواياها الميتة وغشاوتها المعتمة التي تضييع الحق وتطمسه، وتنصر الباطل وتحرزه، سواء كانت متعمدة أم غير متعمدة، لترجع أدراجها إلى الرؤية السليمة والزوايا الحية في قضايا الأمة وبصائر حقائق الواقع.
تجويع غزة أكبر جرائم التاريخ |  Mugtama
تجويع غزة أكبر جرائم التاريخ | Mugtama
القتل بالتجويع أفظع وأبشع وسائل القتل التى عرفها الإنسان عبر التاريخ
mugtama.com
×

ويمكن تقسيم هؤلاء إلى أصناف، جميعهم متحدثون ومنطلقون من هذه الزاوية، وإن كانوا غير متساوين في الدرجة طبعا:

أولهم وهم أخطرهم: هؤلاء الذين يرون المعتدي مظلوما والمعتدى عليه ظالما.. الذين يرون ما حدث في غزة من زاوية المحتل والمغتصب، لا من زاوية أصحاب الأرض والحق، بل ربما قالوا أزيد وصرحوا بما خبت به ضمائر المعتدين ولم يفصحوا عنه، وهؤلاء لا شك عندي أنهم وإن كانوا بأسماء وأزياء المسلمين إلا أنهم في الحقيقة من أبناء المعتدين وإخوانهم، قلوبهم وألسنتهم متشابهة كما قال القرآن الكريم: (تشابهت قلوبهم) (البقرة:118)، وهم الذين يصدق فيهم الوصف النبوي الذي قال فيه: «سَتَأْتِي عَلَى النَّاسِ سِنُونَ خَدَّاعَةٌ، يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ...» الحديث. (رواه أحمد بإسناد حسن)، وهؤلاء أبعد من أن يؤثر فيهم مقال، أو مشهد لضحايا، أو تذكير بمنهج، أو استحضار لتاريخ إسلامي مشرف.

ثانيهم: من أهل هذه الزاوية الميتة، الذين يرون الحدث من آخر فقراته، ويرتبون النتائج السلبية عليه، فتراهم يتكلمون عن الأحداث الأخيرة التي تمت في غزة منذ قرابة سنتين متهمين المسلمين المستضعفين، وينطلقون في مداخلاتهم وتعليقاتهم من خطأ المبتدئ والمحاصر وأنه الذي هيج الفعل وخرم السلم، ونسي أنهم محاصرون من دهر، ومقتر عليهم من سنين، لا يعيشون أبسط الحياة التي يعيشها هؤلاء، ولا ينتقلون لأي مكان إلا بإذن وتصريح، فهم وإن كانوا في أوطانهم إلا أنهم مسجونون، وإن ساروا في طرقاتها إلا أنهم محاصرون، وهؤلاء يشبهون من يقرأ قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ) دون قوله: (وَأَنْتُمْ سُكَارَى) أو يقرأون قوله تعالى: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ) دون قوله: (الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ) مجتزئين الكلمات من السياقات، وفاصلين الآيات عن المناسبات، وهم في هذا يتناسون قول الله تعالى: (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) (الشورى:41).

ولذا غير النبي صلى الله عليه وسلم الزاوية التي يحكمون بها، كما في قصة أبي بصير فهل ما قام به مع المشركين يعد قطع طريق أو نهب مال أو اعتداء على حق الغير؟! ربما من لم يعرف الخلفية لما لاقى هو وأصحابه من تعذيب وتنكيل وأخذ مال وضياع يحكم بهذا! لكن النبي صلى الله عليه وسلم له حكم آخر عندما قال فيه: «وَيْلُ أُمِّهِ مِسْعَرَ حَرْبٍ لَوْ كَانَ لَهُ أَحَدٌ» (رواه البخاري). وما وصل إلى تحريره إلا بما قام به، ولم يعير بما فعل، بل حمد به، وما كان التغيير إلا من خلال القوة والترهيب.

ثالثهم: وهم الذين يبحثون عن ذريعة ينالون من خلالها من أهل الحق والقضية لرواسب مذهبية أو لاختلافات منهجية ومدرسية فردية أو جماعية، يهونون أمرهم إن كانت الدائرة لهم، ويهولون أمرهم إن كانت الدائرة عليهم، تحملهم طوية نفوسهم المريضة وخبث رؤيتهم ورغباتهم الممقوتة لتصيد الأخطاء وازدراء الأفراد، لا يريدون علوا للحق وأهله ولا للقضية وأصحابها، فلا مرحبا- عندهم- بنصر مادام جاء من طريقهم، ولا يفرحون بظفر ما سطر على يدي من يخالفونهم، وهؤلاء هم أهل النفاق الذين حدثنا القرآن عن سلوكهم هذا في كثير من الآيات من ذلك قوله تعالى: (إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ) (التوبة:50) وقد قال تعالى فيهم: (وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ) (التوبة:67) أي عن نصرة الحق بمال وحضور، وقال تعالى فيهم: (بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا) (الفتح:12).
"تجويع غزة".. فنٌّ يتقنه الاحتلال بأذرعه السياسية والعسكرية والإعلامية.. فما هي خيارات غزة؟ | Mugtama
استمرار التجويع والحصار قد يدفع السكان إلى كسر الأسلاك العازلة مع مصر، أو العودة لخيار مسيرات العودة السلمية باتجاه الوطن المحتل
mugtama.com
×

رابعا: من أصحاب الزاوية الميتة الذين ينسون جماع فعال بعض المتحكمين بأمور المسلمين وبالعباد المستضعفين من العلماء وأهل الصلاح والفكر والمحاصرين من خذلان وتنكيل بالتعذيب أو الاعتقال أو الحصار، حتى إذا جاء منهم موقف ظاهره فيه الرحمة وباطنه من قبله العذاب، نسوا ما كان منهم ودافعوا عنهم، متناسين أنه لا يصح إلا الصحيح، وأن السياق دال على الحكم ومبصّر بالرؤية، ويذكرني هذا  بقصة رمزية أوردها ابن حبان في كتابه «روضة العقلاء» عن الفضل بن موسى الشيباني يقول: "كان صياد يصطاد العصافير في يوم ريح، قَالَ: فجعلت الرياح تدخل في عينيه الغبار فتذرفان، فكلما صاد عصفورا كسر جناحه وألقاه في ناموسه. فقال عصفور لصاحبه: مَا أرقه علينا ألا ترى إلى دموع عينيه؟! فقال له الآخر: لا تنظر إلى دموع عينيه ولكن انظر إلى عمل يديه".


الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة