الهجرة النبوية والتحول من مجتمع الفكرة إلى الدولة

الهجرة النبوية لم تكن مجرد انتقال جغرافي من مكة إلى المدينة، بل كانت نقطة تحول كبرى في تاريخ الأمة فاجتمعت من الشتات والمطاردة لأرض صلبة يقف عليها المؤمنون ثم ينطلقون منها لبناء المجتمع المسلم ثم الأمة المسلمة التي من خلالها فتح العالم ليصير موحداً بربه متعبداً له سبحانه، مجتمع ترسخ بنيانه على العلم والإيمان والمؤاخاة والتكافل والتعاون والمحبة منذ لحظات ميلاده الأولى بقدوم النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه إلى مدينته التي صارت منورة بوصوله الكريم ليقول الله تعالى فيهم: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَـٰئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ) (البقرة: 218).
فجوهر الهجرة
النبوية الإيمان والعمل والعدل، وكل هذا كان أصل تأسيس مجتمع المدينة الذي قام على
5 قواعد أساسية:
1- الهجرة
كاختبار صعب للإيمان النظري وطاعة الله عز وجل، حيث ترك الصحابة بيوتهم وتجارتهم
وحياتهم وأهليهم وذكرياتهم، والأمر ليس سهلاً على الإطلاق؛ لذلك وصف النبي صلى
الله عليه وسلم المهاجرين بقوله: «لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا
استنفرتم فانفروا» (رواه البخاري، ومسلم)، فتحول الإيمان بالهجرة لعمل وتضحية.
2- الخطوة
الثانية في تكوين المجتمع الإيماني بعد الهجرة كانت المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار كنموذج فريد للعدالة الاجتماعية، فالمؤمنون في مجتمعاتهم لا يتحدثون عن
حقوق قانونية، إنما عن أخوة بما تحويه من تكاليف وحقوق من كل فرد تجاه أخيه، يقول
تعالى: (إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (الحجرات: 10).
3- كتابة وثيقة المدينة التي تعد أول دستور ينظم العلاقة بين الناس في مجتمع متعدد المعتقدات،
فينظم علاقة المسلمين فيما بينهم، وعلاقة المسلمين فيما بينهم وبين اليهود، وكان
أهم بنودها «أن المسلمين أمة واحدة، وأن لهم دينهم ولليهود دينهم، وأن الدفاع عن
المدينة هو واجب مشترك باعتبارها وطن واحد للجميع»(1).
4- بناء المسجد
النبوي ليكون مركزاً لإدارة الحياة في المدينة، حيث كانت تؤخذ فيه الشورى في
الأمور العامة والتعليم والقضاء بين الناس.
5- تشريع الجهاد
في سبيل الله، حيث لم يشرع في مكة، ليس لأن المسلمين مستضعفون، وإنما لأنه لم يكن
للإسلام أرض صلبة يقف عليها وينطلق من خلالها، لم يكن له دولة تكون ظهيراً لأهله،
شرع بقوله تعالى: (أُذِنَ
لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ
لَقَدِيرٌ) (الحج: 39)؛ فهذه الآية التي نزلت في المدينة شرعت للمسلمين
الدفاع عن أنفسهم، وأكدت أن الجهاد مرتبط بإزالة الظلم وإقامة العدل(2).
الدروس المستفادة من الهجرة(3)
الحقيقة أنه لا
يمكن إحصاء الدروس المستفادة من الهجرة، ولكن نستخلص بعضاً منها:
1- الأخذ
بالأسباب وبذل الوسع البشري كاملاً، مع التوكل الكامل على الله تعالى في إنجاح
الخطة الموضوعة مسبقاً؛ قال تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) (الأنفال: 60)،
وليس معنى هذا أن احتمالات الخطأ غير واردة، فالمؤمن حين يضع خطته، ويستعين فيها
بأهل الخبرة والمدربين عليها والعالمين بها قد يقع في بعض الفشل، لكن ينقذه توكله
على الله تعالى، فقد أدركت قريش النبي صلى الله عليه وسلم عند الغار، لكن معية
الله أخفته هو وصاحبه، كذلك وصول سراقة بن مالك إليه صلى الله عليه وسلم وقد أراد
تسليمه، لكن بركة التوكل تذلل كافة تلك الثغرات التي تقع فيها أثناء تنفيذ خطتك.
2- اليقين في
نصر الله رغم صعوبة المهمة؛ فكان يقول لصاحبه: «مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ
ثَالِثُهُمَا» (صحيح البخاري)، أيضاً حين قال بثقة المؤمن بنصر ربه: «كَأَنِّي
بِكَ يَا سُرَاقَةُ تَلْبَسُ سِوارَيْ كِسْرَى»، فهو يعد سراقة بالمستحيل، إذ كيف
بالمطارد من أهله أن يتحدث عن نصر على دولة الفرس وحكمها؟ لكنه الإيمان الصادق
والثقة برب العالمين.
3- حُسن اختيار
صحبة الطريق، فطريق الدعوة ليس مفروشاً بالورود لا يقدر عليه رجل بمفرده، بل لا بد
من صحبة تعينه وتشاركه وتسانده، لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الشيطان مع
الواحد، وهو مع الاثنين أبعد» (صحيح الجامع).
4- نتعلم من
الهجرة أن القائد ليس في منأى عن جنوده، يعاني مما يعانونه، ويبدأ بنفسه في
التضحية، ويتحمل المشاق، فقد كان بأمر كن فيكون أن ينتقل النبي صلى الله عليه وسلم
إلى المدينة كما انتقل إلى بيت المقدس من قبل حين حمله البراق في دقائق معدودة،
لكن طريق الدعوة يحمل المعجزات للأنبياء لإثبات صدقهم، أما حين يتعلق الأمر
بالعمل، فلا بد من مشاركته لأتباعه فيما يكابدونه لتتعلم الأمة أن ما يدور إنما سُنة
الله في الأرض، وأن عليهم السعي والتعلم والتضحية وبذل الأسباب والتوكل.
5- أن الدعوة
ليست في وقت الرفاهية فقط، أو وقت السلم فقط، فقد تعامل النبي صلى الله عليه وسلم
مع من يتبعونه ليوقعوا به على أنهم مدعوون، وليسوا أعداء يتبعونه، فقد أسلم سراقة،
ودعا عليه الصلاة والسلام بريدة.
6- مكانة أبي
بكر الصديق عند النبي صلى الله عليه وسلم وذلك لما بذله في سبيل الله في كل خطوة
خطاها معه، من بذله وعطائه وإنفاقه، فيأخذ 5 آلاف درهم هي كل ما يملكه، ومن قبل
كان قد أنفق 35 ألف درهم في سبيل الله، ليشتري بها جنته ورضوانه ليستحق وعد الله تعالى:
(وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى {17} الَّذِي
يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى {18} وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى
{19} إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى {20} وَلَسَوْفَ يَرْضَى) (الليل).
7- تربية
الداعية واهتمامه بتأهيل أهل بيته ليكونوا امتداداً له وغطاء يكملون طريقه
ويدعمونه مهما بلغت مشقة الطريق، ولا يكونوا عوناً للعدو عليه، فهذا أبو بكر
الصديق رضي الله عنه جعل كافة أفراد أسرته حاملين لرسالته، فهذا عبدالله ابنه
يستعمله في نقل الأخبار، واستعمل ابنته أسماء في نقل الماء والطعام، واستعمل حتى
مولاه وخادمه عامر بن فهيرة في إخفاء آثار الأقدام فيضلل قريش عن الطريق المقصود.
___________________
(1) ابن هشام،
السيرة النبوية، ج2، ص147.
(2) ابن كثير،
تفسير القرآن العظيم، ج3، ص230.
(3) د. راغب
السرجاني في الهجرة النبوية (بتصرف).