قراءة في نتائج المجلس النيابي في سورية

على مدى أكثر من قرن، كان المجلس النيابي أو مجلس الشعب مرآة تعكس الصراعات السياسية والاجتماعية التي مرت بها البلاد عبر الحقب السياسية المختلفة، بدءًا من المرحلة العثمانية، ثم حقبة الانتداب الفرنسي والصراعات التي برزت فيه ضد الهيمنة الفرنسية على سورية، ثم مرحلة التعددية والحريات إبان الاستقلال، مروراً بالانقلابات العسكرية وهيمنة حزب البعث والحكم الأخير للأسدين الأب والابن.

لمحات من تاريخ الانتخابات في عهد البعث

في الدستور الذي تم فرضه عام 1973م، نصّت المادة الثامنة على أنّ حزب البعث هو «الحزب القائد للدولة والمجتمع»، وهي الفقرة التي أسست بشكل نهائي ورسمي لهيمنة الحزب على مفاصل الدولة بما فيها المفصل التشريعي عبر تصدير قائمة مخصصة في كل دورة تنتمي لحزب البعث والأحزاب الموالية له؛ ما يجعل المجلس مجرد غرفة لتعبئة استمارات القرارات المفروضة من قيادة النظام على المؤسسات السورية.

وعلى مدى عقود، تحوّلت الانتخابات البرلمانية للمجلس النيابي -أو مجلس الشعب- إلى آلية رمزية للتذكير بأن النظام متحكّم في مسار الحياة السياسية والبرلمانية، أكثر من كونها تمثيلًا شعبيًّا فعليًّا، واستمرت هذه الحال حتى في عهد الثورة، فرغم الدمار الشديد والتهجير الكبير الذي حلّ بنحو 50% من سكّان سورية، استمر النظام في فرض هذه الرمزية، والتباهي بها.

فعلى سبيل المثال، أعلن النظام في إحصاءات انتخابات يوليو 2024م المخصّصة للمجلس، أن نسبة المشاركة تجاوزت نحو 40% من حوالي 19.2 مليون ناخب يقيمون داخل سورية، وهي أرقام مضللة، حيث كانت أعداد النازحين داخليًّا وخارجيًّا تزيد على 10 ملايين من أصل 24 مليون نسمة، بحسب إحصاءات الدولة السورية قبل بدء الثورة عام 2011م.

المجلس النيابي الجديد

إثر انتصار الثورة وسقوط نظام الأسد عام 2024م، ومع بدء العمل على بناء المؤسسات القضائية والتشريعية، كانت الانتخابات المصغّرة في أكتوبر 2025م، حيث سينتج عنها مجلس نيابي مُحدّث، برزت فيها تغييرات أساسية في آلية التمثيل والاختيار.

حُدّد أن يكون المجلس من 210 أعضاء، يتمّ انتخاب ثلثيهم (140) عبر دوائر انتخابية تعتمد على لجان انتخابية محلية أو نظام الهيئة الانتخابية (electoral colleges)، بينما يعيّن الثلث الآخر من قبل الرئيس السوري أحمد الشرع مباشرة.

وعلى ما يبدو، فإن هذا النمط الانتخابي يكشف عن السعي للوصول إلى تمثيل مختلط مرحليًّا في سياق الانتقال السياسي، فهو ليس انتخابًا شعبيًّا مباشرًا بالمعنى الكلاسيكي، ولا ينمّ عن رفض للعملية الانتخابية، وإنما جاء استجابة لوقائع الصراع والنزوح والدمار الذي أصاب البنية الانتخابية والاستحقاقات الديموغرافية في سورية.

والهدف من ذلك جسر الهوّة بين الواقع والغاية، وتقديم شرعية مؤسّسية للمجلس النيابي ضمن المرحلة الانتقالية، مع مراعاة واقع الانهيار الإداري والسكاني والنزوح، ومع استبقاء دور معيّن للسلطة التنفيذية في التعيين لضمان التوازن في بنية المجلس بين مختلف المكونات.

من المنظور الفلسفي-التمثيلي، تبدو الانتخابات السورية الحديثة كمحاولة لإعادة بناء علاقة بين المواطن والمؤسسة التشريعية بعد سنوات من الفرز السلطوي والهيمنة الأحادية، لكنّها في الوقت نفسه تخضع لقيود عدة، منها غياب المشاركة الشعبية، وضعف بنى الأحزاب، وغير ذلك، وبالتالي، فإن التمثيل في هذه الانتخابات ليس تمثيلًا نهائيًّا أو مثاليًّا، وإنما تمثيل للمرحلة الانتقالية بما يحمل الإمكانات والأخطار معًا.

المجلس.. بين المتطلّبات والوظائف

لا يمكن أن يكون الانتقال القانوني في سورية تلقائيًّا، بل يحتاج إلى أُطر تُعيد تأسيس العلاقة بين التشريع والرقابة والمؤسسات، ومن أبرزها: إقرار دستور جديد للبلاد، وإقرار قانون انتخابي شفاف ومنصف يشمل تحديد الدوائر الانتخابية، ووسائل الترشّح، مع مراعاة النازحين والمهجّرين، وضمان حق التنافس الحرّ، وهذا يتطلّب تعديل أو سنّ قوانين الانتخاب، وإشراك المجتمع المدني في المراقبة.

إلى جانب ذلك، لا بد من ضمان استقلالية أعضاء المجلس، من خلال اشتراط معايير للمُرشّحين وأعضاء اللجان الانتخابية، تُبعد من كان تابعًا للنظام السابق أو له تضارب مصالح أمنية أو تنفيذية.

وفي حال استيفاء المتطلّبات القانونية، إلى حدّ ما، فإن المجلس النيابي المقبل يجب أن يؤدي عددًا من الوظائف الجوهرية، من أهمها إصدار قوانين تنظم عملية إعادة البناء والإعمار، تشمل، على سبيل المثال، قانون إعادة الاندماج للنازحين، وقوانين الإدارة المحلية، وإعادة حقوق الملكية العقارية، ومكافحة الفساد، والحوكمة.

ينبغي أن يكون المجلس جهة رقابة فعّالة، لا هيئة تابعة للمؤسسات التنفيذية، وعليه يجب أن تكون جلساته علنية قدر الإمكان، وأن يُمكن أن تشكل لجان تحقيق أو استيضاح في ملفات الفساد، وإعادة الإعمار، والعقود الخارجية، وحقوق المهجّرين، وآليات المحاسبة للمؤسسات التنفيذية.. إلخ.

إلى جانب ذلك، لا بد من تمثيل المواطنين والمجتمع المدني من خلال استماع مباشر للناشطين في العمل المدني، والمنظمات غير الحكومية، من خلال إجراء جلسات استماع، وفهم تداعيات الحرب والنزوح على الفئات المهمّشة، وضمان أن يكون المجلس منبراً لصوتهم وليس مجرد تمثيل شكلي لبعض الشخصيات والتوازنات.

وفي الختام، لا بد في مرحلة ما بعد الصراع، أن يكون للمجلس دور حاسم في توجيه السياسة الخارجية، من خلال إعادة العلاقات الدولية، والمسائل الحدودية، والتعامل مع اللاجئين والمهجّرين، وتعزيز العلاقات مع القوى الإقليمية والدولية، فعلى المجلس أن يشارك في صياغة هذه السياسات، ويُصادق على الاتفاقيات، ويُمارس رقابة على التزام الدولة بها.

إن التمثيل والوظيفة والاستقلالية ليست فروعاً ثانوية، إنما هي الجوهر الذي يُحدّد ما إذا كان المجلس النيابي سيُصبح مؤسّسة فعليّة للتغيير، أم سيبقى كما في الماضي مجرد امتداد للسلطة القائمة.


اقرأ أيضاً:

أيام في «الهيئة الناخبة».. شهادة على أول انتخابات حرة في سورية بعد الثورة

أزمة السويداء ومستقبل سورية

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة