أزمة السويداء ومستقبل سورية

تقع السويداء أقصى الجنوب السوري، محاذية
حدود الأردن من جهة، ومتصفة بكونها منطقة ذات غالبية درزية من جهة أخرى؛ ما يمثّل
تمايزًا ضمن النسيج السوري العرقي والطائفي والجغرافي، على حد سواء.
منذ اندلاع الثورة السورية، حافظت بعض
مناطق السويداء على حالة من العزلة أو الحياد النسبي، مع تفاهمات غير مكتوبة بين
المرجعيات الدينية في الطائفة الدرزية -منظومة شيوخ العقل- وحكومة النظام السابق،
مما أتاح لها -بشيء من الأريحية- إدارة شؤونها الأمنية ضمن هوامش من التغافل
الرسمي.
ولم يكن سقوط النظام سببًا في تغيير
المعادلة، وإنما مرحلة أخيرة في سياق تكوين منهج درزي جديد في التعامل مع الحكومة
المركزية، بدأ بالتشكل منذ عام 2021م حين تصاعدت المناكفات بين الطائفة وبعض
مرجعياتها، والنظام السوري السابق، وصولاً إلى تسرّب معلومات حول وجود تواصلات
خفية بين هذه المرجعيات وجهات درزية في الكيان «الإسرائيلي»، ومع سقوط النظام
اقتُلِبت المعادلة في السويداء، حيث ارتفع الصوت تدريجًا للمطالبة السياسية بالحكم
الذاتي أو الحماية الخارجية.
تواجه السويداء مفترقًا حادًا بعدما
تحولت من الحياد النسبي في عهد النظام السابق إلى ساحة تنازع مكشوف مع السلطة
السورية، وذلك من خلال التنازع مع الفاعلين المحلّيين -عشائر بدو السويداء-
والحكومة المركزية -تحت وسوم وعناوين كثيرة- مع ما يبدو أنه تدخّلات خارجية لدعم
هذه المطالب.
مطالب الدروز
تعود هذه المطالب -الخفية- إلى أغسطس
2022م عندما تصاعدت احتجاجات مطلبية في السويداء، وتحركت إلى حراك سياسي منظم في
ساحة الكرامة، تحت مسمى تخفيف القبضة الأمنية والإصلاح اقتصادي، ثم ترسّخت شبكاته
الاجتماعية والإعلامية خلال عام 2024م، إلا أن هذا الإرث الاحتجاجي المناهض
-سلميًّا- تحول إلى صدام مباشر ضد السلطات السورية الجديدة في مناطق عديدة منذ يناير
2025 حتى يوليو 2025م، ترافق مع تصريح مباشر من الكيان «الإسرائيلي» -عدة مرات-
بالتعهد بحماية الدروز، وتحوّل على الأرض بقصف متكرر تحت المسمى ذاته.
في يوليو 2025م، اندلعت صدامات
درزية-بدوية توسعت سريعًا، دفعت الدولة بعد اتفاقات متكررة نقضتها منظومة مرجعيات
العقل للتدخل لضبط الأمن، إلا أن مفرزات المواجهة تخللتها انتهاكات جسيمة وأعمال
قصف «إسرائيلية» ردًا على ما سمته التهديدات قرب الحدود، وحماية الدروز، قبل تثبيت
هدنة هشة.
أضعفت هذه الوقائع -بدرجات متفاوتة- حالة
الثقة الدولية بالسلطة ورفعت شهية الطائفة الدرزية للمطالبة باللامركزية والانفصال
والحماية الدولية، لكنها في الوقت نفسه عمّقت الانقسام داخل البيئة الدرزية بين
تيارات التفاهم والتوافق مع الدولة، وبين المطالبة بالانفصال والمواجهة المفتوحة.
هذه المرحلة الفاصلة تُجبر السويداء على إعادة كتابة علاقاتها مع الدولة المركزية، ومع القوى المسلحة المحيطة، ومع الحاضنة المجتمعية التي ترى أن بعض فصائل الدروز قد تُجبرها على تسويات لا تعكس توازن القوى المحلي، فإذا أصرّت بعض الفصائل الدرزية على التعنّت -بمعنى رفض المشاركة في التسويات أو التكامل ضمن الدولة الموحدة- فالمستقبل يحمل أخطارًا على الاستقرار السياسي، والعدالة الاجتماعية ضمن المحافظة، وهكذا يمكن تقسيم آفاق التطوّر إلى 3 مستويات؛ سياسي، وإنساني، ومجتمعي.
بين اللامركزية والصدام
إذا استمرت فصائل درزية في رفض حلول
الوسط، ستدخل السويداء في حالة من التوتر المزمن مع السلطات السورية المركزية
المدعومة بشعبية وشرعية محلية جارفة، من جهة، ومن جهة أخرى فإنه سوف تتعنت
بالمطالبة بالإدارة الذاتية المحلية على غرار ما يجري في مناطق «قسد».
لكن هذا التوجه يصطدم بـ3 معوقات رئيسة:
أولًا: رفض حكومة دمشق السماح بأي تمثيل
سياسي مستقل عن الحكومة المركزية، سواء للسويداء أو غيرها، وما فرِض بواقع سياسي
خاص في مناطق الجزيرة السورية شرق الفرات لا مجال لتكراره في الأصل، حيث تعمل
التوافقات الدولية وضغوطات الأمن الإقليمي على تجاوزه ودمج قسد في بنية الدولة دون
تمييز خاص بها.
ثانيًا: احتمال تدخل جهات إقليمية («إسرائيل»،
الدول المجاورة) في تأييد طرف درزي مقابل أطراف درزية والحكومة السورية، لتوسيع
نفوذها؛ وقد شهدنا خطوات «إسرائيلية» تجاه الدروز في السويداء، منها ضربات جوية ضد
مواقع سورية بدعوى حماية الدروز، إلا أن هذه الخطوات بحد ذاتها محكومة بعملية
التفاوض التي تسعى «إسرائيل» لإقرارها، ولا يعدو كون حالة المرجعيات الدرزية في
هذه الحالة سوى ورقة للتفاوض، يمكن الاستغناء عنها مقابل أوراق أخرى.
ثالثًا: الانقسامات الداخلية بين فصائل
الدرزية حول مدى قبول الحلول الوسط (التسوية مع دمشق أو التنسيق الأمني) أو
التمسّك بالمشروع المستقل، وحتى مع الفصائل التي بدأت تطلق انتهاكات واسعة لحقوق
الإنسان وأقواتها؛ ما قد يفضي إلى صراعات محلية تؤخر أي انتقال سياسي مستقر.
البُعد الإنساني
العنف بين فصائل الدروز المسلحة والعشائر
والقوات الحكومية أدى إلى موجات نزوح داخلي واسعة من الريف والمدينة، داخل
المحافظة وخارجها، وقد تفاقم وضع النازحين سوءًا بسبب سوء البنية التحتية في
السويداء (المياه، والكهرباء، وشبكات الصرف الصحي، والمرافق الصحية والطبية)
الضعيفة أساسًا.
وفي ظل التعنّت، من قبل الفصائل الدرزية
برفض المساعدات الحكومية والمطالبة بالانفصال، فإن المواطن هو من يعاقَب من قبل
هذه الفصائل، وقد يستمر ذلك بحجب التوريدات وتأخير المشاريع التنموية، مما قد يزيد
من معاناة السكان ويغذي الاستياء بين الطبقات الفقيرة، وقد يتحول جزء من السكان
إلى ترك السويداء نهائيًا، مما يغيّر التركيبة الديموغرافية فيها.
الأثر المجتمعي
من المرجح أن يولد التعنّت السياسي
للفصائل الدرزية -ومن خلفها مرجعية العقل التي ينحو حكمت الهجري إلى تركيزها في
يده فقط مخالفا العرف التاريخي بجعلها بين 3 أسر محددة- وبالتالي إحداث شرخ داخل
المجتمع الدرزي.
بعض العائلات أو القرى قد ترى أن الحلول
الوسط ضرورية للبقاء، في حين يرى آخرون أن التنازل خيانة للمشروع الدرزي؛ ما قد
يفضي إلى صراع محلي بين القوى الدرزية نفسها، ليس بالضغوط الكلامية فحسب بل
بالسلاح، على النفوذ الاجتماعي والروحي.
على صعيد الهوية، تزداد الدعوات لتعزيز
الانتماء الدرزي كمرجعية عليا في مقابل الهوية السورية الموحدة؛ ما قد يعزّز الفصل
الاجتماعي مع المكون السوري في المحيط (القبائل البدوية، والنسيج السُّني السوري،
وطوائف المسيحيين) ومع ازدياد العزلة، ستظهر ثقافة دفاعية مركّبة تغذي رفض الآخر؛ ما
يجعل المصالحة الاجتماعية صعبة لاحقًا.
من جهة أخرى، نشأت طبقة من النخب الجديدة
المرتبطة بالفصائل المسلحة، تستولي على الموارد وتفرض ضرائب وتأخذ دور الوسيط مع
الجهات الخارجية؛ ما يُضعف دور مؤسسات المجتمع المدني (المدارس، الجمعيات، البنى
العشائرية التقليدية) ويدفع لطغيان المرجعية الدينية بلا حدود.
إذا استمر هذا الوضع، ستبقى السويداء مجتمعًا
منغلقًا يتلقّى قراراته من قيادة عسكرية-دينية محلية، منعزلة عن التطورات الوطنية،
وحينها، فإن إعادة الدمج مع الدولة ستكون صعبة للغاية، وسيدفع المجتمع ثمن النزاع
باستقراره وتطوره وتنمية أرضه وأهم من ذلك كله، بكونه بعيدًا عن بناء مستقبل
سورية، وتحوله إلى أداة في تفتيتها.
اقرأ أيضاً:
ما الذي يحدث في السويداء؟ ولماذا تتدخل
«إسرائيل» باسم «حماية الدروز»؟
«إسرائيل» والتصعيد الإقليمي في سورية.. قراءة
في الأهداف الخفية