الأساس الفكري للعنصرية الصهيونية ضد اليهود والعرب (3 - 4)

3- تهميش العربي:

إن عملية التجريد السابقة تستهدف تهميش العربي حتى لا يشغل مركز الأحداث بالنسبة لفلسطين. والعربي الهامشي نمط أساسي في الإدراك الصهيوني للعرب. إن الصهاينة ينكرون وجود أية هوية سياسية للعرب عامة، وللفلسطينيين على وجه الخصوص، أو أية مشاعر قومية من جانبهم. فالصهاينة في إدراكهم للثورات العربية ضدهم، ينكرون طبيعتها القومية والسياسية ويؤكدون لأنفسهم ولرفاقهم أن الدافع إليها ليس حب الأرض أو الوطن أو التمسك بالتراث، فالدافع إليها هو التعصب الديني. وقد كان الصهاينة يلومون المسيحيين العرب، أحياناً، باعتبارهم الأعداء الحقيقيين لمشروعهم الاستيطاني، ويصورون المسلمين في صورة الفريق الطيب الذي يمكن التفاهم معه. وكانوا أحياناً أخرى يفترضون العكس، فيؤكدون أن المسلمين هم العدو الحقيقي، وأن المسيحيين هم الفريق الذي يبدي استعداداً كبيراً للتعاون. وكانت الجماهير الفلسطينية بالنسبة إليهم مجرد غوغاء يتلاعب بها المهيجون الإقطاعيون والأفندية ولا تحركها الدوافع القومية. ويرى سمحا فلابان أن وايزمان كان يؤمن إيماناً راسخاً بأن تمرُّد هذه الجماهير ليس تعبيراً صادقاً عن حركة قومية خلاقة وإنما كانت تمليه الاعتبارات الإقطاعية والقَبَلية الضيقة.

وإلى جانب هذا، كان الصهاينة يرون الفلسطيني أو العربي حيواناً أو مخلوقاً اقتصادياً محضاً تحركه الدوافع الاقتصادية المباشرة. ولذا، فيمكن حل المشكلة العربية (حسب هذا التصور) في إطار اقتصادي لا يكون سياسياً بالضرورة. ولعل من الأمثلة الأولى على هذه الإستراتيجية الإدراكية رشيد بك، هذا العربي الذي تم تخليقه حسب المواصفات الصهيونية في رواية هرتزل الأرض الجديدة القديمة، فهو يؤكد أن الوجود الصهيوني قد عاد على العرب بالنفع الكبير: لقد زادت صادرات البرتقال عشر مرات، كما أن الهجرة اليهودية كانت خيراً وبركة، خصوصاً بالنسبة لملاك الأراضي لأنهم باعوا أرضهم بأرباح كبيرة. وظل لفيف من الصهاينة يؤمنون إيماناً راسخاً بإمكان التغلب على معارضة الفلسطينيين عن طريق توضيح المزايا الاقتصادية الجمة التي سيجلبها الاستيطان الصهيوني، وعن طريق حثهم على الرحيل إلى البلاد العربية بعد إعطائهم التعويض الاقتصادي المناسب عن وطنهم. وكانت إحدى القناعات الإدراكية عند وايزمان أن تطوُّر فلسطين سيؤدي إلى أن يفقد العرب الاهتمام بالمعارضة السياسية.

ويؤكد وولتر لاكير وغيره من المؤرخين أن السياسة الرسمية للصهيونية في العشرينيات (ويمكن أن نضيف: وبعدها) هي عدم الدخول في مناقشات سياسية مع العرب، بأية حال، وحصر أيَّ تفاوض في التعاون الاقتصادي وحده، وعدم التعرض لطبيعة النظام السياسي. ويُلاحَظ أن الإستراتيجية الإدراكية هنا تهدف إلى إسقاط الطبيعة القومية لردة الفعل العربية، فلو تم تصنيفها كحركة قومية فإن منطق التصنيف نفسه يؤدي إلى ضرورة الاعتراف بالعرب كجماعة قومية لها أرض قومية وتراث قومي ومجال قومي ومجموعة من الحقوق القومية تنسف الادعاءات الصهيونية القومية بشأن الأولوية القومية الأزلية لليهودي في أرض فلسطين.

الخطاب الصهيوني المراوغ  ( 1 - 4) |  Mugtama
الخطاب الصهيوني المراوغ ( 1 - 4) | Mugtama
والخطاب الصهيوني له سمات محددة أهمها المراوغة الن...
mugtama.com
×

ومع هذا، فقد كانت القومية العربية أحياناً تفرض نفسها على الإدراك الصهيوني فرضاً كدافع محرك للجماهير العربية. وهنا، كان الصهاينة يتبنون إستراتيجيتين أخريين هما في جوهرهما تعبير أكثر حذقاً وصقلاً عن محاولة تهميش العربي ونزع الصبغة السياسية عنه. أما الأولى، فهي الاعتراف الجزئي بالطبيعة القومية للثورات الفلسطينية مع تفسيرها تفسيراً يجردها من مضمونها الإنساني ويفصلها عن الحركات القومية المماثلة فتصبح بالتالي قومية ناقصة لا تستحق أن تحصل على أية حقوق. والقومية العربية، حسب هذا الإدراك، إن هي إلا قومية مصطنعة تابعة للإنجليز وللقوى الخارجية وعميلة لهم. كما أن الصهاينة كانوا أحياناً يرون القومية العربية مجرد رد فعل للاستيطان الصهيوني ليست لها وجودها الحقيقي، ومحاولة لسلب الصهيونية ليست لها دينامية ذاتية مستقلة. وكان الصهاينة العماليون يصفون القومية العربية بأنها قومية رجعية، أو كما قال حاييم أرلوسوروف فإنهم قومية تهيمن عليها قوى الرجعية الاجتماعية والطغيان السياسي ولم تبرز داخلها قيادات سياسية مثل صن يات صن أوغاندي.

وأما الإستراتيجية الإدراكية الثانية، فهي مواجهة القومية العربية كأمر واقع يفرض نفسه فيتم الاعتراف بها كقومية كاملة مع تقليص مجال فعاليتها بحيث لا تضم الفلسطينيين. ويقول أحد مؤرخي الحركة الصهيونية إن الإسهام الأساسي لوايزمان في النظرة الصهيونية إلى العرب تتلخص في تمييزه بين العرب والفلسطينيين، إذ كان يرى إمكانية التوصل إلى اتفاق مع القومية العربية، بل مساومتها، مقابل أن يتخلى العرب عن مطالبهم في فلسطين. وكان أيضاً، حسبما ورد في كتاب فلابان، صاحب النظرية القائلة بأن فلسطين جزء غير مهم من الوطن العربي الكبير. وكان أرلوسوروف موافقاً على التعاون مع العرب، ولكنه كان متشائماً بشأن التعاون مع الفلسطينيين. ويمكن أن نرى مفاوضات وايزمان/فيصل ومعظم اتصالات الصهاينة مع العرب في هذا الإطار. بل إن الصهاينة قدَّموا عام 1930 مشروعاً طرحه موشيه بينكوس نائب رئيس تحرير دافار ونال تأييد بن جوريون الحذر، وهو في جوهره تعبير عن هذه الإستراتيجية. كان المشروع يدعو إلى إقامة دولة يهودية في فلسطين تصبح جزءً من اتحاد فيدرالي يضم الشرق العربي بأسره. وكان المفروض أن يشكل الفلسطينيون أقلية داخل الدولة المفتوحة، ولكنها هي نفسها كانت تشكل أقلية داخل اتحاد الدول العربية.

دور المنظمات الصهيونية في تدمير الأخلاق |  Mugtama
دور المنظمات الصهيونية في تدمير الأخلاق | Mugtama
يندهش المرء عندما يعلم مثلاً أن عدد المواق...
mugtama.com
×

ولعل هذه الإستراتيجيات الإدراكية هي أذكى الإستراتيجيات على الإطلاق وأكثرها تَفرُّد ودهاءً وتعبيراً عن خصوصية الصهيونية كحركة استيطانية إحلالية لا تهدف إلى غزو العالم واستبعاده (على طريقة النازية) وإنما إلى الاستيلاء على الأرض الفلسطينية وحدها دون سكانها. فعملية التهميش هنا تصبح مقصورة على الضحية المباشرة، أي الفلسطيني، دون حاجة إلى استجلاب عداء الآخرين، سواء في الشرق أو في الغرب. ولا تزال محاولة تهميش العرب نمطاً أساسياً في الإدراك الإسرائيلي للعربي.

التطبيع في الفكر الديني اليهودي.. العلاقة بين «الأغيار» و«شعب الله المختار» |  Mugtama
التطبيع في الفكر الديني اليهودي.. العلاقة بين «الأغيار» و«شعب الله المختار» | Mugtama
ينص التلمود على أنه يجب على كل يهودي أن يبذل ج...
mugtama.com
×

4- العربي الغائب:

ذكر العرب، ولو في مجال التشهير بهم، هو اعتراف ضمني بهم، ولكن الصهاينة يحاولون إخفاء العرب بإدخالهم في مفهوم مقولة «الأغيار» المجردة. هذا الاتجاه يصل إلى قمته فيما يمكن أن نسميه مقولة «العربي الغائب» ، فبدلاً من الإخفاء الجزئي خلف مقولة مجردة، تصل محاولة الإخفاء إلى حد الإغفال الكامل، فالصهاينة أحياناً لا يذكرون العربي بخير أو شر، ويلزمون الصمت حيال الضحية، ويُظهرون عدم الاكتراث الكامل بها (وهذه إحدى سمات الخطاب الصهيوني).

والواقع أن مقولة «العربي الغائب» كامنة في مقولة «اليهودي الخالص»، وكلما تزايدت معدلات الحلولية العضوية وتركزت القداسة في اليهود، اتسعت الدائرة وزاد استبعاد الآخر تدريجياً إلى أن يختفي تماماً ويغيب حين يصبح اليهودي الخالص هو اليهودي المطلق ذي الحقوق المطلقة الخالدة التي لا تتأثر بوجود الآخرين أو غيابهم. وهكذا، فإن نظرية الحقوق المطلقة تعني غياب أية حقوق أخرى غياباً تاماً.

ويُفسِّر بعض المفكرين ظاهرة العربي الغائب بأنها محاولة للتهرب من حقيقة صلبة تتحطم عندها كل الآمال الصهيونية. فيقول عالم السياسة الإسرائيلي شلومو أفنيري: "إن الرواد الصهاينة الأولون لم يكن في مقدورهم مواجهة حقيقة أن ثمن الصهيونية هو نقل العرب، ولذا أخذت آليات الدفاع عن النفس شكل تَجاهُل تَعيُّن المشكلة العربية. فالتمسك بالرؤية الصهيونية لم يكن ممكناً دون اللجوء بشكل غير واع لخداع النفس. ويقول ليبوفيتس: إن الصهاينة الأوائل لم يريدوا (لأسباب نفسية واضحة) رؤية الحقيقة، ولم يدركوا أنهم كانوا يضللون أنفسهم ورفاقهم. ومهما كانت الدوافع، فإن من الواضح أن الصهاينة أرادوا أرض فلسطين دون فلسطينيين (أرضاً بلا شعب)، ولذا كان يجب أن يختفي العرب ويزولوا.




___________________

المصدر: كتاب موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية – الجزء الثالث: العنصرية والإرهاب الصهيونيان.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة