معبد الإلحاد يهتز (16)

لماذا لم يُرِنا الله ما أراه لإبراهيم؟

لا يستحي الملحدون من طرح شبهاتهم رغم تهافتها، فغايتهم الأساسية هي فتنة الجهلاء بشبهات تبدو عادلة في ظاهرها، لكنها تكشف عن سوء فهم وخبث ومكر يُعبر عن استحباب العمى على الهدى.

نص الشبهة

(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) (البقرة: 260).

هنا هَبَّ اللهُ مُسْرِعًا بالإجابة، فجَعَلَهُ يُشَاهِدُ كيف يُحْيِي الموتى، بحسب ما نقله لنا القرآن. أمَّا نحن، فيُطْلَبُ مِنَّا الإيمانُ بالغيب دون أن نُمَنَحَ شيئًا: لا وحيًا، ولا معجزةً، ولا صوتًا من السماء، نحن فقط يُقال لنا: آمنوا، وإن لم تفهموا فصدِّقوا، وإن لم تروا فاستعيذوا إن شككتم.

فلماذا يا الله استجبتَ لإبراهيم، الذي كان أصلًا يُكَلِّمُكَ، وشاهد من خوارق قدرتك ما يُذهِلُ العقول، وتجاهلتَ قلوبَنا التي لم تعرف سوى صمتك؟ ألسنا نحن أحقَّ بتلك المعجزات؟ أحقَّ بأن نطمئن؟ لماذا يُلَبَّى طلبُ مَن رأى، ويُتْرَكُ مَن لم يرَ شيئًا إلا التكرارَ والنقلَ والإجبارَ العاطفيَّ؟

هل الطمأنينةُ مسموحةٌ للأنبياء فقط؟ هل المعجزةُ لا تُمنَحُ إلا لمن سبق وأن شهد عشراتِ الآيات؟

هل نحن مجرَّدُ عابرين في هذا الوجود؟ خُلِقْنَا لنؤمن، ثم نُحاسَب إن فشلنا، دون أن تُتاح لنا نفسُ الفرصة، ونفسُ البرهان، ونفسُ اليقين؟

إن كان إبراهيم، بكلِّ ما رأى، قد تمنى أن يرى أكثر ليطمئن، فما بالُنا نحن الذين لم نرَ شيئًا يُطلب منا أن نؤمن بلا سؤال؟!

العدلُ -كما أخبرونا- من صفات الله؛ فأين هو حين نُحاسَب على الإيمان دون أن نُمنَحَ ما مُنِحَ الأنبياء؟ وأين هو حين نُطَارَدُ في شكِّنا، بينما تُفْتَحُ أبوابُ الطمأنينة لنبيٍّ قد جاءه الوحي مرارًا وتكرارًا؟» ا.هـ

الرد عليها:

الشبهة تتمحور حول قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام، كما وردت في القرآن الكريم: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ)، هنا، يُجاب إبراهيم فورًا برؤية إحياء الموتى، بينما نحن مطالبون بالإيمان بالغيب دون معجزات أو أصوات من السماء.

أولًا: هل كان سؤال سيدنا إبراهيم دليل نقص إيمان؟

القرآن الكريم نفسه نفى هذا الوهم صراحة: (قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَىٰ)؛ إذن: السؤال لم يكن شكًّا في القدرة الإلهية.. ولم يكن طلب برهان على وجود الله.. بل انتقالًا من علم اليقين إلى عين اليقين، وهذا فارق جوهري.

درجات اليقين في القرآن الكريم:

1- علم اليقين: التصديق العقلي.

2- عين اليقين: المشاهدة.

3- حق اليقين: المعايشة.

سيدنا إبراهيم كان في الدرجة الأولى، وطلب الثانية.. أما نحن فلم نُحرم الأولى أصلًا.

ولو كان السؤال شكًا، لما استجاب الله عزَّ وجل له، فالله لا يعزز الشك بل يهدي الباحثين.. لأنه سبحانه يستجيب لمن يسعى بصدق.

يؤكد القرآن الكريم درجات اليقين في سورة التكاثر: (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ) (التكاثر: 5)، ثم (ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ) (التكاثر: 7)، وأخيرًا حق اليقين في سياق الآخرة: (إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) (الواقعة: 95)؛ ما يظهر أن اليقين يرتقي تدريجيًا، وسيدنا إبراهيم كان يطلب الارتقاء وليس الإثبات الأساسي.

اليقين العلمي (كالإيمان بالذرات دون رؤيتها) أقوى لأنه مبني على دلائل، وليس على إجبار حسي يمكن تفسيره بسحر أو وهم.

ثانيًا: لماذا أُعطي إبراهيم ما لم نُعطَ؟

الخطأ المنطقي الكبير في الشبهة هو الخلط بين اختلاف الوظيفة واختلاف العدل، فالأنبياء ليسوا «مؤمنين مميزين» وإنما رسل مكلفون بوظيفة عامة: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا) (الإسراء: 15)، والمعجزة ليست «مكافأة شخصية»، لكنها أداة تصديق علني للأمة؛ أي: المعجزة ليست لإقناع النبي بل لإقامة الحجة على الناس.

ولو كانت المعجزات حقوقًا فردية، لكان كل مؤمن يطلبها، مما يحول الدين إلى عرض سحري، وليس اختبارًا للعقل.

وعلى مر الزمان، كانت معجزات الأنبياء للأمم، كشق البحر لسيدنا موسى أمام بني إسرائيل، وليس لموسى وحده.. وهذا يؤكد أن العدل ليس في التساوي المطلق، بل في التكليف حسب القدرة والدور.

قال الله تعالى: (وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ) (الإسراء: 59)، مما يظهر أن المعجزات مرتبطة بدور الرسالة، وليس بالطلب الشخصي، وأن رفضها سابقًا يجعلها غير ضرورية للجميع.

ثالثًا: هل نحن أحق بالمعجزة لأننا لم نر؟

السؤال يبدو عادلًا، لكنه مقلوب منطقيًا؛ لأن المعجزة لا تُنتج الإيمان الحر، ولكن تنتج الإذعان القسري.

والقرآن الكريم يصرّح بذلك: (وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) (الأنعام: 7)، وأيضًا: (وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا) (الحجر: 14).

وبالنظر لمن رأوا المعجزات نجد: قوم موسى رأوا البحر ينشق لكنهم عبدوا العجل! وقوم عيسى رأوا إحياء الموتى فكذبوه! وقريش رأت أعظم معجزة لغوية في التاريخ نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا ساحر!

إذن المعجزة لا تخلق الإيمان، بل تكشف ما في القلوب.

ولو كانت المعجزة مضمونة للإيمان، لما كفر مَن رآها، مما يثبت أنها تكشف ما في القلوب، لا تخلقه.

أما الإيمان القسري فيفقد قيمته، كالحب المفروض، فالاختيار الحر هو أساس العدل، قال الله تعالى: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَىٰ) (الأنعام: 35)؛ ما يؤكد أن الله جل جلاله لا يجبر بالمعجزات، بل يترك الاختيار، ويقول تعالى: (وَمَا لَنَا أَلَّا نُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ) (الأنعام: 108)، لكن الكفار يرفضون رغم الآيات.

نجد أن الإقناع الحسي يؤدي إلى إذعان مؤقت، بينما الإيمان العقلي دائم.

رابعًا: هل الإيمان بالغيب ظلم؟

والجواب: بل هو الشرط الوحيد للعدالة؛ لأنه لو رأى الجميع الغيب عيانًا لسقط الامتحان، ولو أُجبر الناس على اليقين انتفى الاختيار.. ولو استوى المؤمن والكافر في المعرفة القهرية انهار معنى الثواب والعقاب.

القرآن الكريم يحدد معيار التفاضل: (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) (البقرة: 3)، لم يقل: الذين رأوا ولا الذين أُجبروا، بل الذين استدلّوا واختاروا، لو أُجبر الناس على اليقين، لفقد الإنسان حريته، وهي أساس المسؤولية الأخلاقية.

قال الله تعالى: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ) (الأنعام: 59)؛ ما يؤكد أن الغيب اختبار، وأيضاً: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ {2} الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) (البقرة)، فالإيمان بالغيب صفة المتقين، لا الرائين.

خامسًا: هل حُرمنا من الطمأنينة؟

هذا افتراض غير صحيح، فالطمأنينة ليست معجزة حسية، بل نتيجة مسار معرفي.

الله عزَّ وجل لم يقل: آمنوا بلا عقل، بل قال: «أفلا تعقلون» و«أفلا يتفكرون» و«قل انظروا ماذا في السماوات والأرض».

ما مُنح لنا ولم يُمنح للأنبياء: تراكم معرفي هائل، وعلم كوني دقيق، وانتظام قوانين مذهل، وتاريخ موثق للنبوات، ونص محفوظ بلا انقطاع.

والواقع، نحن نعيش وسط آيات لا تُحصى، لكنها ليست خوارق، وإنما نظام أعظم من الخارق، فالآيات الكونية أعظم من الخوارق، والنظام المستمر (كقوانين الفيزياء) يدل على خالق حكيم أكثر من حدث استثنائي.

وبالنظر في كتاب «الكون المصمم» لستيفن هوكينغ أشهر علماء الفيزياء تجد الكتاب -دون أن يقصد- يؤيد فكرة التصميم الإلهي؛ قال الله تعالى: (وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ {20} وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) (الذاريات)، فالطمأنينة تأتي من التفكر في الخلق، وليس عقد الآمال على الخوارق، حيث إنَّ الطمأنينة المبنية على العلم أدوم من تلك المبنية على رؤية مؤقتة.

سادسًا: لماذا يُحارب الشك عندنا ويُستجاب لإبراهيم؟

لأن هناك فرقًا بين: سؤال الباحث وشك المعاند، فسيدنا إبراهيم عليه السلام لم يقل: هل أنت قادر؟ بل قال: كيف؟

أما الشك الذي يُدان: هو الشك الذي لا يبحث، بل يطعن في حقيقة الكون الأزلية أنه لا إله إلا الله.

ولهذا قال الله تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (النحل: 43)؛ السؤال يؤدي إلى اكتشاف، بينما الرفض المسبق يعيق التقدم، مثلما رفض بعض العلماء نظرية النسبية أولاً ثم قبلوها بعد البحث.

الشك المعاند يُدان لأنه يرفض الدليل، كما قال الله تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا) (البقرة: 170).

سابعًا: هل نحن عابرون بلا فرصة عادلة؟

بل العكس تمامًا، نحن لا نُحاسب على ما لم نبلغه ولا على ما لم نفهمه، ولا على ما لم نُمهل فيه: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) (البقرة: 286)، (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ) (فصلت: 46).

العدل الإلهي ليس مساواة في الأدوات، بل مساواة في الحجة، والحجة قائمة علينا بالعقل، وليس بالمعجزات.

وبالنظر للقانون البشري، نجد المسؤولية تتناسب مع القدرة، فالطفل لا يُحاسَب كالبالغ؛ كذلك -ولله المثل الأعلى- الله عزّ وجل يعاملنا حسب وسعنا وما في قلوبنا وعقولنا وأفهامنا، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ) (النحل: 90)، و(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ) (النساء: 135)، فالعدل صفة إلهية تشمل عدم الظلم؛ (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (غافر: 31).

لو كانت المعجزات ضرورية للعدل، لما رفضها الكفار سابقًا، كما في قوله تعالى: (وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ) (الإسراء: 59)، فالفرصة عادلة بالعقل والدلائل الكونية.

ولو كانت المعجزة شرطًا للعدل، لما كفر من رأى البحر ينشق، ولا من رأى الموتى يقومون ويتحركون ويتكلمون.


اقرأ أيضًا:

العدل الإلهي.. بين الحقيقة والوهم!

هل ينفعل الله؟!

هل غيَّر الله مكانه؟


الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

جميع الأعداد

ملفات خاصة

مدونة