من وحي حصار غزة وتجويع أهلها.. دروس من التاريخ الإسلامي

كان أول حصار تعرض له المسلمون حصارهم
سنة 7 من البعثة في شعب أبي طالب، حيث تعاقدت قريش أن تقاطعهم، فلا يؤاكلوهم، ولا
يشاربوهم، ولا يناكحوهم، وطال الحصار على مدى 3 سنوات، حتى اضطر المسلمون إلى أكل
الأوراق والجلود، وحتى كان يُسمع من وراء الشِّعب أصوات نسائهم وصبيانهم يتضاغون
من الجوع.
ثم كانت عاقبة صبرهم وثباتهم أن ضرب الله
قلوب بعض المشركين ببعض، وغلبت العصبية القبلية هشاشة الوثنية في نفوس نفر منهم،
واشرأبت المروءة العربية، وهي بقية من أخلاق يتماجدون بها، حقٌّ لا خلاف فيه، جاء
رسولنا ليتممها، فقال: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق».
ثم كان حصار الأحزاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه في السنة الخامسة من الهجرة، وطال حصارهم قرابة شهر، حتى بلغت القلوب
الحناجر، وظن الناس الظنون، ولما رأى الله صدق إيمانهم، ورسوخ معتقدهم؛ أنزل عليهم
النصر، بالريح العاصفة، والملائكة الناصرة.
النصر القريب
وفي الحالتين -شِعب أبي طالب، وزلزلة
الأحزاب- كان العدو الكافر المستصعب قد بلغ غاية الجهد في الحشد، وعنفوان القدرة
على الكيد، فتحطم غرور قوته على صخرة الإيمان والثبات؛ فكانت تلك بداية نهايته،
فخرج النبي صلى الله عليه وسلم بعد حصار الشِّعب يعرض دعوته على القبائل، فلقي
نصرة الأنصار من أهل يثرب، وكانت هزيمة الأحزاب مفتتح الهجوم على معسكر الشرك في
مكة، وقال: «الآن نغزوهم ولا يغزوننا»، ولم تمض 3 سنوات حتى كانت رايات الإسلام
ترفرف على ربى مكة.
وإنا لنرجو أن يكون للثابتين في غزة مثل
ذلك إن شاء الله، فقد بلغ كيد الصهاينة وغرورهم واستظهارهم بأمريكا ومن معها منتهاه، وما بعد ذلك إلا الفرج.
مظالم عالمية
وظاهرة الحصار والتجويع مكرورة في
التاريخ الإنساني، تعبر عن اختلالات موازين القوة بين أطراف الصراع، على نحو يتيح
لطرف أن يسعى لإضعاف خصمه، أو فرض إرادته عليه، أو إجباره على تقديم تنازلات
يستنكف منها، ومعلوم أن القوة ليست دائمًا مقرونة بالحق، وأن الطغيان يسعى إلى
التفرد بتقرير مصائر المستضعفين.
رأينا ذلك في حصار أمريكا وحلفائها
العراق على مدى 13 سنة (منذ سنة 1990 حتى احتلاله سنة 2003م)؛ ما أدى إلى وفاة
مليون ونصف مليون طفل نتيجة التجويع ومنع الغذاء والدواء.
ورأيناه في عدوان الصرب على مسلمي البوسنة والهرسك (1992-1995م)، والحصار الوحشي لمدنها، وارتكاب المذابح الجماعية؛
وأشهرها مذبحة سريبرينيتسا التي أسفرت عن
مقتل أكثر من 8000 رجل وصبي وامرأة، وحالات مروعة من الاغتصاب الجماعي،
والتطهير العرقي.
خذلان الولي وموالاة العدو
ومن المؤسف أن تأتي تلك الجرائم في عصر
ضعف المسلمين، وتشرذمهم، وخيانة كثير من زعمائهم، وموالاتهم أعداء الأمة،
والمشاركة في جرائم الحصار والتهجير والتجويع!
وما أشبه الليلة بالبارحة، ففي عصور
الهون وجدنا المغول يجتاحون بلاد الإسلام، فينشروا أجواء الرعب التي اجتاحت
النفوس، وجعلت حكام المسلمين يبادرون إلى تقديم قرابين الولاء لجنكيز خان،
وهولاكو، ويفتحون أمامهم خزائن أموالهم، ومعسكرات جيوشهم.
من نماذج الصمود
ويأتي الشبه أيضًا من نماذج الصمود
النبيل، كما رأينا في صمود مدينة ميافارقين، وحاكمها الشهم الملك الكامل، الذي رفض
الاستسلام طوال عامين من الحصار المميت والتجويع المرير (656-658هـ)، وتلكم
الحاضنة الشعبية المهيبة من أهلها الذين أكلوا جلود النعال، والقطط، والكلاب، بل
جثث الموتى! وآثروا الموت على أن يعطي الدنية في دينهم، فلما دخل المغول المدينة
بعد عامين لم يجدوا منهم سوى 63 نفسًا من العوام و42 جنديًا.
أما حاكمهم البطل فقد اقتيد أسيرًا، ولقي
الشهادة باسم الثغر، مرفوع الهامة، بينما كان معاصروه من ملوك الذل يسارعون إلى
تقديم العون للعدو، ويسعون لنيل مرضاته.
ومما يزيد روعة صموده وشهادته أن قراره
بالقتال حتى الموت كان بعدما رأى سقوط بغداد، واستباحة أهلها، وما حل بها من خراب،
فما أوهن ذلك من عزمه، ولا فتَّ في عضده.
تلك رؤية مستبصرة له، وقراءة واعية لعبر
التاريخ، لم يدركها المعتمد بن عباد الأمير الأندلسي إلا بعد سقوط طليطلة، التي
حوصرت تسعة أشهر، وتضوَّر أهلها جوعًا، بينما كان ملوك الطوائف يطوفون بخيمة
ألفونسو السادس ملك قشتالة، فما أجدَتْهم القُرَب، وما زال الملك الصليبي يستنزف
أموالهم، ويستحلب دماءهم، حتى أدركوا أن الدائرة واقعة بهم لا محالة، هنا أرسلوا
رسلهم يستنجدون بيوسف بن تاشفين، الأمير المرابطي الزاهد التقي، الذي لم تفسد
طراوة أهل الأندلس صلابته، فما توانى عن نصرتهم، فأطال الله به عمر الأندلس 4 قرون.
لقد وجدت أنّات نساء طليطلة، وصريخ
أطفالهم، وما حل بهم من ذل بعد عز وسؤدد، وهم بين أنياب غاصب مستأسد، وجدت نصيرًا
لها ولو بعد حين.
أما الناصر صلاح الدين، فقد أمضى شهورًا
فوق صهوة جواده يحاول نصرة أهل عكا الذين أحاط بهم صليبيو الحملة الثالثة، يقودهم
ريتشارد وملوك أوروبا، فما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وأعمل الصليبيون في أهلها
السيف، فما كاد ينجو منهم أحد، لكن صمودهم، ونصرة صلاح الدين لهم أنقذت بيت المقدس
كي لا يعود إليه عباد الصليب؛ بعدما حرره صلاح الدين قبل نحو 4 سنوات.
أين الناصرون؟
وإنه لعزيز على نفس كل حر أن يفتقد اليوم
الشريف القرشي الذي أبى أن يهلك بنو عمومته من المسلمين في شِعب أبي طالب، ويفتقد
الناجد التقي الذي يهتف «لبيك يا غزة»، والقائد الرباني الذي ينتفض غضبًا لحرمة «الأقصى»
وبكاء الصبي، والإنسان العزيز الذي تغلي دماء رأسه وهو يرى على شاشات التلفاز
المجوّعين بغير حق، والقابضين رغم ذلك على الجمر.
«والله لضربة بسيف في عز خير من ضربة
بسوط في ذل»، هكذا قالت أسماء بنت أبي بكر تصبِّر ولدها ابن الزبير، وتشد أزره، وهكذا
فهم أهل غزة، وإن الضريبة التي يدفعها الأحرار أقل كلفة في ميزان الحق من تلك التي
يدفعها من يرضون الذل والاستكانة؛ (وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ ۖ إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ
فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ ۖ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا
يَرْجُونَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) (النساء: 104).
وإن الموت جوعًا والقتل شهادة في رباط
العز أشرف من الموت جوعًا في جوائح الطبيعة، التي تُهلك ألوف البشر كل عام، بينما
يهلك ألوف آخرون في حروب ظالمة يفرضها الأقوياء والمغامرون والمتألهون من الحاكمين
المستبدين.