بين أبرهة وترمب.. قراءة في الأحداث

د. أحمد طه

11 أغسطس 2025

818

ما زلت أؤمن أن السيرة النبوية تحمل في طياتها التجربة الحياتية العظيمة التي يرجع إليها المسلمون والمنصفون إلى معاودة قراءتها على اختلاف الزمان والمكان لأوجه الشبه العظيمة، وكذلك لأجوبة الأسئلة الشائكة لما يحل على الإنسان بشكل عام والمسلم بشكل خاص.

وكلما مر بي حدث من أحداثنا اليومية طالعت القرآن الكريم مصدر السيرة الأول، ثم ثنيت باستقراء السُّنة النبوية المصدر الثاني التي تتضمن في داخلها مواطن ومواقف السيرة التفصيلية، لمحاولة فهم الواقع وإدراك حقيقة وصحة قراءته وضبط النفس وحملها على تفهم القدر والتسليم به والتصبر عليه، والتزود بالعدة المتاحة لتغيير هذا الواقع والحال، وتقديم ما يستوجب علينا نحن المسلمين ناحية ربنا ونفوسنا وأهلنا وأمتنا للخروج من الأزمات واستكمال البناء وتحقيق الاستخلاف.


تجويع غزة بين النظر الفقهي والموقف القانوني | مجلة المجتمع
تجويع غزة بين النظر الفقهي والموقف القانوني | مجلة المجتمع
التجويع هو أحد أقدم الوسائل التي لجأ إليها البشر لهزيمة أعدائهم، غزة نموذجا
mugtama.com
×


ولعل الجميع يدرك ما وصلت إليه أحوال الأمة –مع عظم رقعتها وكثرة عددها- في أحداث غزة الأبية الكاشفة بما وصلت إليه من الهوان والتخاذل والسكوت على هذه المذابح اليومية والتجويع الممنهج الذي يتحكم فيه شرذمة الأرض وجراثيم البشر، فالمصاب في حقيقة الأمر جلل وهو للأسف مركب، ففضلاً عن القعود عن النصرة العملية والإغاثة اليومية الحياتية وفك حصار الشعب الأعزل والدعم المتاح، ومحاسبة الجميع على تبني صموده وثباته وغير هذا، فإن المصاب الأعظم في حقي هو التحكم في تقرير مصيرنا والتنكيل بنا حسب إرادة هذا الذي يعيش في أقصى الأرض يحكم ويأمر ويعطي ويمنع دون حساب أو اعتراض، بل للأسف تجد الأنظمة تستجديه في تفريج الكرب عنا وتستعطفه في إتاحة الفرصة لنا للعيش وفك الحصار.

ذكرني هذا بأبرهة الأشرم التي أتى من أدغال القرن الأفريقي يقصد حرمنا وأرضنا والشعوب العربية التي تعيش في كنف البيت الحرام آمنة مطمئنة، لأجد أوجه الشبة بين أبرهة، وترمب، كبيرة وعظيمة:

- السيطرة على مراكز الأرض وإخضاع الكل:

فما الذي يجعل أبرهة يتحرك من أقصى البلاد آنذاك ويأتي بجيشه العرمرم بعد ما حدث في كنيسته التي بناها حسداً وحقداً إلا هدم كل مراكز النفوذ والقوة في الأرض –ممثلة في البيت الحرام- وإخضاع الجميع لهيبته وسلطانه، فلا يجد بعدها من يعارضه أو يمنعه من ثروات الأرض وتوسيع النفوذ وإرغام الناس أنظمة وشعوباً؟!

- الحشد العسكري والتقدم التكنولوجي:

هل كان يتجرأ أبرهة أن يتحرك من بلده إلى الجزيرة العربية ومكة إلا بعد اطلاعه الكامل على مقدرات القبائل العربية العسكرية أسلحة وعدة وعدداً هناك؟! وهل يستطيع أن يجعل صراعه ونفوذه هذا في أمة قوية مثله عسكرياً وتنظيمياً؟!

مستحيل أن يحدث ذلك وإلا لكانت العواقب وخيمة والخسارة كبيرة، ولذا تجده ساق بين يديه الأفيال والمجانيق وحشد الجيش العظيم بعدة لا تعرفها أرض العرب، وليس لهم بها قِبَل، ويشبه هذا اليوم بما أنتجته التكنولوجيا الأمريكية والغربية في مجال الأسلحة، إضافة إلى القواعد العسكرية التي باتت تعج بها أرض العرب والمسلمين التي تنطلق منها عوامل الترهيب والمشاركة العسكرية في أرضنا لا على غيرنا.

- الحرب الإعلامية والنفسية وخلق الهالة:

اعتمد أبرهة أن يصدر حرباً إعلامية ونفسية وهالة تسبقه إلى أرض هدفه مكة بحجم جيشه وقدرات جنوده وانتصارات وهمية في طريقه، فقد هزم بعض قبائل اليمن، كما هزم نفيلاً بن حبيب من قبيلة خثعم وغيرها، ليلقي في خلد الجميع أنه القوة التي لا تهزم ولا يمكن أن يوقفها أحد، وهذا ما يقوله ترمب اليوم في كثير من لقاءاته ومرئياته وأحاديثه دون خجل أو تورية من جيش أمريكا أقوى جيوش الأرض، وأنه في يديه مفاتيح الجحيم الذي يستطيع أن يفعلها في أي وقت؛ ما يصيب الوهن والخوف من الاعتراض عليه أو حتى إغضابه.

- التحالفات المفتتة لعضد الأمة واجتماعها:

فقد طالعتنا السيرة النبوية أن مسعوداً بن معتب من ثقيف قد تواطأ مع أبرهة ليثنيه عن بلده الطائف حتى لا يهدم صنم اللات صنم ثقيف، فأرشده إلى طريق مكة، وأرسل معه دليلاً إلى مكة وهو المشارك معه في الغدر والخيانة أبو رغال، ليطل علينا هذا المشهد اليوم من التحالفات التي تقيمها بعض الأنظمة على حساب أخوتهم ومبادئ دينهم طلباً للأمن الموهوم، بل وتتكالب على إرضائه بالمال والثروات سياسة كما يزعمون ونجاة كما يظنون.

ألم يكن من الأجدى لأشباه مسعود هذا أن يقف بجوار مكة وأهلها والبيت الحرام الذي يحجون له ويتاجرون حوله خاصة أن ثقيفاً أدنى الأرض إلى مكة ولأهلها صلة ورحماً وبساتين فيها، لكن تلك طبائع النقص في نفوس الضعفاء الذين عند أول اختبار يديرون ظهورهم ويقدمون دعمهم لعدو إخوانهم.

- فاتورة الحملة والحرب من يدفعها؟

فقد أغار أبرهة في طريقه إلى مكة على كل مال يصل إليه جيشه من أموال وأنعام العرب، فلا حُرَم ولا أخلاق، ومن سيدفع فاتورة هذه الحملة التي جئت بها إليكم إلا أنتم؟! حتى أموال سيد مكة وأنعامه عبدالمطلب لم تسلم منه، وقصة إتيانه إليه وطلبه إبله وأنعامه مسطرة في كتب السيرة، وفي المقابل نجد ترمب أمريكا اليوم يتكلم عن وجوب تحمل فاتورة الدفاع عن الأنظمة في قتال إخوانهم وتجويع أبنائهم مطالباً إياهم بمزيد من الأموال والثروات بكل تبجح وصفاقة!


الزاوية الميتة.. قراءات في أحداث غزة | مجلة المجتمع
الزاوية الميتة.. قراءات في أحداث غزة | مجلة المجتمع
مجلة المجتمع الكويتية: منصة إعلامية رائدة تُعنى بالشأن الإسلامي وتقدم تقارير ومقالات تعزز الوعي الحضاري للأمة الإسلامية انطلاقاً من مرجعية إسلامية تجمع بين الأصالة والمعاصرة، وهي تابعة لجمعية الإصلاح الاجتماعي بدولة الكويت، وترفع شعار "مجلة المسلمين حول العالم".
mugtama.com
×


- تغليف العدوان والاعتداء بزعم إنجاز المهمة الصغيرة:

زعم أبرهة أنه لم يأت ليقتل أحداً، وما يريد إلا هدم الكعبة فقط، ويده ملطخة على طول طريقه بدماء المستضعفين واستباحة أموالهم وأعراضهم، وهل هدم بيت لا يتجاوز بضعة أمتار طولاً وعرضاً يحتاج كل هذا الحشد والجيش المتنوع أسلحته عسكرياً ولوجستياً، كما نسمع اليوم من اعتداءات أن الغاية إنسانية، وأن الحرب ليست هدفاً لنا، أبعد كل هذا القتل والدمار وتغيير جغرافية الأرض يخرج إلينا ترمب قائلاً: نريد غزة جنة لأهلها وما جئنا إلا لإحلال السلام بها؟!

وأخيراً، ففي عناصر الشبة بين المتغطرسين الكثير، وكأن أبرهة الأمس تجسد في ترمب اليوم، ولعل الخاتمة أيضاً تتشابه، فقد زال ملكه وفني حشده وجيشة وتغيرت الأحوال في طرفة عين، وظهرت المعجزات عياناً للجميع، ولا تزال القصة تتلى في القرآن، وتقرأ بتفاصيلها للعبرة في السُّنة النبوية لربط أمسنا بيومنا وإرجاع تعلقنا بربنا. 

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة