لسان عربي مبين (2)

الحكمة من اختيار الله تعالى اللغة العربية لتكون لغة القرآن الكريم

د. رمضان فوزي

20 أكتوبر 2025

126

يتعلق بعروبة القرآن بعض القضايا أو التساؤلات التي قد تثار في بعض الأذهان، سواء استفساراً واستفهاماً أم تشكيكاً وإثارة للشبهات، ومن هذه القضايا أو التساؤلات: الحكمة من اختيار الله تعالى اللغة العربية لتكون لغة كتابه من بين سائر اللغات.

في مناقشة هذه القضية، نؤكد أن الله تعالى خلق هذا الكون بنظام بديع، وجعل فيه الناس أمماً وشعوباً، وجعل لكل منهم لغته الخاصة به؛ حيث لا توجد لغة واحدة يجتمع عليها جميع الخلق؛ ولذلك فإن الله عز وجل لو اختار أي لغة أخرى؛ لكان هذا السؤال مطروحاً من أصحاب اللغات الأخرى (ما الحكمة من اختيار هذه اللغة دون غيرها؟).

ولأن عقولنا قاصرة عن إدراك حِكَمِ الله تعالى في كل أفعاله؛ فإننا نوقن بأن اختياره للغة العربية دون غيرها هو الاختيار الأنسب، حتى لو لم تسعفنا عقولنا وإدراكاتنا في معرفة سبب ذلك، لكن هذا لا يمنعنا من محاولة الاجتهاد في الوصول لبعض جوانب هذه الحكمة، خاصة من خلال اجتهادات السادة علماء القرآن والتفسير، ويمكن أن نفسر الحكمة من وراء ذلك في أمرين:

أولاً: طبيعة القوم الذين نزل فيهم القرآن:

لقد اختار الله تعالى العرب ليكون منهم الرسول صلى الله عليه وسلم ويتنزل عليهم كتابه القرآن عليهم دون سائر الأمم؛ لأنه سبق في علمه سبحانه أنهم الأنسب لذلك، بعد أن تهيؤوا من ناحية اللغة والفصاحة والبلاغة؛ حيث عرف عنه عنايتهم الكبيرة بلغتهم وتفاخرهم بها وتباريهم في فنونها؛ ولذا وصفهم الله بـ«العلم» في قوله تعالى: (تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {2} كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (فصلت)؛ فهم قوم لديهم الاستعداد للعلم والمعرفة والتمييز؛ فمن آمن منهم به وصدقه كان أهلاً لأن يحسن أداءه وتبليغه لغيره من الناس في باقي أصقاع الأرض.

يقول د. عبدالصبور شاهين: «كان أفضل ما يميز هذا الإنسان العربي في جزيرته أنه كان إنسانًا فطريًّا لم تستهلكه أساطير موضوعة، ولا حضارات قاهرة، لقد كان إنسانًا يملك إرادته، وبقية دين إبراهيم مع فطرته السليمة، ولغته الكاملة، وبيانه النافذ، وقابلياته التي زوده الله بها؛ ليزكيه بالكتاب، وليكمل الله الدين، وليتم عليه النعمة بالإسلام.

كانت لغته هي شغله الشاغل؛ فهو يعكف عليها في مواسم الحج متفننًا في تصريف القول بها، وانتقاء ألفاظها، وصقل أشعارها وحفظ نصوصها؛ فلقد كان يدرك أن عبقريته وتفوقه ومستقبله ونقاءه في لغته العربية التي انتسب إليها فصار بها عربيًّا» (عربية القرآن، ص75).

ويضيف الطاهر بن عاشور سبباً آخر متعلقاً بالعرب وقت نزول القرآن وتميزهم عن الأمم الأخرى؛ حيث يقول: «فإن الله لما اصطفى الرسول صلى الله عليه وسلم عربياً، وبعثه بين أمة عربية كان أحق اللغات بأن ينزل بها كتابه إليه العربية؛ إذ لو نزل كتابه بغير العربية لاستوت لغات الأمم كلها في استحقاق نزول الكتاب بها، فأوقع ذلك تحاسدًا بينها بخلاف العرب؛ إذ كانوا في عزلة عن الأمم؛ فلا جرم رجحت العربية لأنها لغة الرسول صلى الله عليه وسلم ولغة القوم المرسَل بينهم؛ فلا يستقيم أن يبقى القوم الذين يدعوهم لا يفقهون الكتاب المنزل إليهم!

ولو تعددت الكتب بعدد اللغات لفاتت معجزة البلاغة الخاصة بالعربية؛ لأن العربية أشرف اللغات وأعلاها خصائص وفصاحة وحسن أداء للمعاني الكثيرة بالألفاظ الوجيزة، ثم العرب هم الذين يتولون نشر هذا الدين بين الأمم وتبيين معاني القرآن لهم» (التحرير والتنوير، 24/ 313).

ثانياً: طبيعة اللغة العربية وخصائصها:

وهذا الأمر متعلق بما قبله؛ فنتيجة لاهتمام هؤلاء القوم بلغتهم وحرصهم على تطويرها وتنميتها بما وهبهم الله من مهارات الفصاحة والبلاغة والبيان؛ أصبحت هذه اللغة قمينة بأن تحمل كتاب الله تعالى بما حوته من خصائص وسمات لم تتحقق في غيرها من اللغات.

يقول محمود محمد شاكر: «وإذا كانتِ اللُّغة خِزَانةَ الفكر الإنساني؛ فإنَّ خزائن العربيَّة قد ادَّخَرَت من نفيس البيان الصَّحيح عن الفكر الإنساني، وعن النُّفوس الإنسانيَّة ما يُعجز سائر اللُّغات؛ لأنَّها صُفِّيَت منذ الجاهليَّة الأولى المُغرِقَة في القِدَم من نفوس مُختَارة بريئة منَ الخَسَائس المُزرِيَة، ومنَ العلل الغالبة، حتى إذا جاء إسماعيلُ نبي الله، ابنُ إبراهيمَ خليل الله، عليهما الصَّلاة والسَّلام، أَخَذَها وزادها نصاعة وبراعة وكرمًا، وأسلمها إلى أبنائه منَ العَرَب، وهم على الحَنِيفِيَّة السَّمْحَة دين أبيهم إبراهيم، فَظَلَّت تَتَحَدَّر على ألسنتهم مُختَارَة مُصَفَّاة مُبَرَّأَة، حتَّى أظَلَّ زمان نبي، لا ينطق عنِ الهوى صَلَّى الله عليه وَسَلَّم، فأنزل الله بها كتابه بلسان عربي مُبين، بلا رمز مبني على الخُرَافَات والأوهام، ولا ادِّعاء لِمَا لم يكن، ولا نسبة كَذِب إلى الله، تعالى الله عن ذلكَ عُلُوًّا كبيرًا» (أباطيل وأسمار، ص346).

وهكذا اجتمع اهتمام العرب مع قوة اللغة ومرونتها واتساعها؛ لتكون أهلاً لأن يشرفها الله تعالى بأن تكون لغة كتابه الخاتم إلى العالمين.


اقرأ في هذه السلسلة:

عروبة القرآن.. دلالة البيِّنة ومرامي التعقُّل والإنذار 

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة