ليقضي الله أمراً.. التفسير الإيماني لأحداث غزة
إن الله تعالى
إذا أراد أمرًا سلب من ذوي العقول عقولهم، ومن ذوي الأفهام أفهامهم، ومن ذوي
العيون بصائرهم، ومن ذوي الآذان أسماعهم، كل ذلك لينفذ أمر الله تعالى، فلا راد
لقضائه ولا معقب لحكمه.
ولقد تعلمنا من
كتاب ربنا وسيرة نبينا صلى الله عليه وسلم تلك السنة الكونية.
أمية بن خلف ووعيد النبي بقتله
جاء سعد بن معاذ
لمكة معتمرًا، فنزل على أمية صديقه في الجاهلية، يقول: فَخَرَجَ به قَرِيبًا مِن
نِصْفِ النَّهَارِ، فَلَقِيَهُما أبو جَهْلٍ، فَقَالَ: يا أبَا صَفْوَانَ، مَن هذا
معكَ؟ فَقَالَ هذا سَعْدٌ، فَقَالَ له أبو جَهْلٍ: ألَا أرَاكَ تَطُوفُ بمَكَّةَ
آمِنًا، وقدْ أوَيْتُمُ الصُّبَاةَ، وزَعَمْتُمْ أنَّكُمْ تَنْصُرُونَهُمْ
وتُعِينُونَهُمْ، أما واللَّهِ لَوْلَا أنَّكَ مع أبِي صَفْوَانَ ما رَجَعْتَ إلى
أهْلِكَ سَالِمًا.
فَقَالَ له
سَعْدٌ ورَفَعَ صَوْتَهُ عليه: أما واللَّهِ لَئِنْ مَنَعْتَنِي هذا
لَأَمْنَعَنَّكَ ما هو أشَدُّ عَلَيْكَ منه، طَرِيقَكَ علَى المَدِينَةِ، فَقَالَ
له أُمَيَّةُ: لا تَرْفَعْ صَوْتَكَ يا سَعْدُ علَى أبِي الحَكَمِ، سَيِّدِ أهْلِ
الوَادِي، فَقَالَ سَعْدٌ: دَعْنَا عَنْكَ يا أُمَيَّةُ، فَوَاللَّهِ لقَدْ
سَمِعْتُ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: إنَّهُمْ قَاتِلُوكَ،
قَالَ: بمَكَّةَ؟ قَالَ: لا أدْرِي.
فَفَزِعَ لِذلكَ
أُمَيَّةُ فَزَعًا شَدِيدًا، فَلَمَّا رَجَعَ أُمَيَّةُ إلى أهْلِهِ، قَالَ: يا
أُمَّ صَفْوَانَ، ألَمْ تَرَيْ ما قَالَ لي سَعْدٌ؟ قَالَتْ: وما قَالَ لَكَ؟
قَالَ: زَعَمَ أنَّ مُحَمَّدًا أخْبَرَهُمْ أنَّهُمْ قَاتِلِيَّ، فَقُلتُ له:
بمَكَّةَ، قَالَ: لا أدْرِي، فَقَالَ أُمَيَّةُ: واللَّهِ لا أخْرُجُ مِن مَكَّةَ،
فَلَمَّا كانَ يَوْمُ «بَدْرٍ» اسْتَنْفَرَ أبو جَهْلٍ النَّاسَ، قَالَ: أدْرِكُوا
عِيرَكُمْ؟ فَكَرِهَ أُمَيَّةُ أنْ يَخْرُجَ، فأتَاهُ أبو جَهْلٍ فَقَالَ: يا أبَا
صَفْوَانَ، إنَّكَ مَتَى ما يَرَاكَ النَّاسُ قدْ تَخَلَّفْتَ، وأَنْتَ سَيِّدُ
أهْلِ الوَادِي، تَخَلَّفُوا معكَ، فَلَمْ يَزَلْ به أبو جَهْلٍ حتَّى قَالَ:
أمَّا إذْ غَلَبْتَنِي، فَوَاللَّهِ لَأَشْتَرِيَنَّ أجْوَدَ بَعِيرٍ بمَكَّةَ،
ثُمَّ قَالَ أُمَيَّةُ: يا أُمَّ صَفْوَانَ جَهِّزِينِي، فَقَالَتْ له: يا أبَا
صَفْوَانَ، وقدْ نَسِيتَ ما قَالَ لكَ أخُوكَ اليَثْرِبِيُّ؟ قَالَ: لا ما أُرِيدُ
أنْ أجُوزَ معهُمْ إلَّا قَرِيبًا، فَلَمَّا خَرَجَ أُمَيَّةُ أخَذَ لا يَنْزِلُ
مَنْزِلًا إلَّا عَقَلَ بَعِيرَهُ، فَلَمْ يَزَلْ بذلكَ حتَّى قَتَلَهُ اللَّهُ
عزَّ وجلَّ بـ«بَدْرٍ»(1).
رؤيا عاتكة بنت عبدالمطلب
رَأَتْ
عَاتِكَةُ بِنْتُ عَبْدِالْمُطَّلِبِ، قَبْلَ قُدُومِ ضَمْضَمٍ مَكَّةَ بِثَلَاثِ
لَيَالٍ، رُؤْيَا أَفْزَعَتْهَا، فَبَعَثَتْ إلَى أَخِيهَا الْعَبَّاسِ بْنِ
عَبْدِالْمُطَّلِبِ فَقَالَتْ لَهُ: يَا أَخِي، وَاَللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ
اللَّيْلَةَ رُؤْيَا أَفْظَعَتْنِي، وَتَخَوَّفْتُ أَنْ يَدْخُلَ عَلَى قَوْمِكَ
مِنْهَا شَرٌّ وَمُصِيبَةٌ، فَاكْتُمْ عَنِّي مَا أُحَدِّثُكَ بِهِ، فَقَالَ
لَهَا: وَمَا رَأَيْتِ؟
قَالَتْ:
رَأَيْتُ رَاكِبًا أَقْبَلَ عَلَى بَعِيرٍ لَهُ، حَتَّى وَقَفَ بِالْأَبْطَحِ،
ثُمَّ صَرَخَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: أَلَا انْفِرُوا يَا لَغُدُرَ لِمَصَارِعِكُمْ
فِي ثَلَاثٍ، فَأَرَى النَّاسَ اجْتَمَعُوا إلَيْهِ، ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ
وَالنَّاسُ يَتْبَعُونَهُ، فَبَيْنَمَا هُمْ حَوْلَهُ مَثَلَ بِهِ بَعِيرُهُ عَلَى
ظَهْرِ الْكَعْبَةِ، ثُمَّ صَرَخَ بِمِثْلِهَا: أَلَا انْفِرُوا يَا لَغُدُرَ
لِمَصَارِعِكُمْ فِي ثَلَاثٍ: ثُمَّ مَثَلَ بِهِ بَعِيرُهُ عَلَى رَأْسِ أَبِي
قُبَيْسٍ، فَصَرَخَ بِمِثْلِهَا. ثُمَّ أَخَذَ صَخْرَةً فَأَرْسَلَهَا،
فَأَقْبَلَتْ تَهْوِي، حَتَّى إذَا كَانَتْ بِأَسْفَلِ الْجَبَلِ ارْفَضَّتْ،
فَمَا بَقِيَ بَيْتٌ مِنْ بُيُوتِ مَكَّةَ وَلَا دَارٌ إلَّا دَخَلَتْهَا مِنْهَا
فَلِقَةٌ، قَالَ الْعَبَّاسُ: وَاَللَّهِ إنَّ هَذِهِ لَرُؤْيَا، وَأَنْتِ
فَاكْتُمِيهَا، وَلَا تَذْكُرِيهَا لِأَحَدِ(2).
وكانت قريش تعرف
تأويل الرؤيا، ومع هذا يصر أبو جهل على الخروج لـ«بدر».
وبينما هم في
الطريق جاءهم نبأ نجاة القافلة، بل وأبو سفيان يقول لهم ارجعوا لقد نجت القافلة،
ويعود الأخنس بن شريق ببني زهرة وكانوا ثلث الجيش، ولكن أبا جهل يصر على مواصلة
المسير للمعركة، بل ويقسم أن يرد ماء «بدر» وينحر الجذور ويشرب الخمور، ويظل هناك
ثلاثة أيام حتى تسمع بهم العرب فتهابهم.
ولما وصلوا إلى «بدر»،
وأرسلوا عمير بن وهب ليأتيهم بخبر القوم، وطاف بالمسلمين وعاد لقريش بالخبر
المحزن، القوم ثلاثمائة يزيدون أو ينقصون قليلًا، لكن رأيت نواضح يثرب تحمل الموت
الناقع، ويقول: فلا أرى أن يقتل واحد منهم حتى يقتل واحدًا منَّا -أي من قريش-
وهنا قام حكيم بن حزام إلى عتبة بن ربيعة وقال له: أنت سيد القوم، فهل لك من أمر
تذكر به أبد الدهر، قال: وما هو؟ قال ترجع بالقوم وتحمل دية حليفك عمرو الحضرمي،
قال عتبة: قد فعلت، وأخذ يكلم الناس، فجاء حكيم لأبي جهل وأخبره بما قال عتبة،
فقال أبو جهل: انتفخ والله سحره، ونادى على عامر بن الحضرمي وقال: قم فانشد خفرتك،
ودقت طبول الحرب ليقضي الله أمرًا كان مفعولًا.
الأمر من جانب المسلمين
يقصه لنا القرآن
الكريم، عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: (كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ
بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ {5}
يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى
الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ {6} وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ
أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ
وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ
الْكَافِرِينَ) (الأنفال)، وقال تعالى: (وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ ۙ وَلَٰكِن
لِّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن
بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ) (الأنفال: 42).
أكثر المشركين
لا يريدون الحرب، وطائفة من المسلمين لا يريدون الحرب، ولكن الله تعالى يبين أنه
دبر هذا ورتبه، ليقضي أمرًا كان مفعولًا.
ويوم «الأحزاب»
أراد الله تعالى نصرًا للمؤمنين ولم يرد قتالًا مع المشركين، سبحان الله تعالى،
فقد نصرهم بالريح والجنود الخفية، دون أن يقاتل المؤمنون في أرض المعركة، قال
تعالى: (أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ
فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا) (الأحزاب: 6)،
وقال تعالى: (وَرَدَّ اللَّهُ
الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا ۚ وَكَفَى اللَّهُ
الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ) (الأحزاب: 25)، وهذا يبين أن كل شيء بإرادته
سبحانه.
وأما يوم «الحديبية»
فلم يرد قتالًا وأراد صلحًا، قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم
بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ ۚ وَكَانَ اللَّهُ
بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا) (الفتح: 24).
وماذا لو نشبت
الحرب فمن يستطيع إيقافها؟ لا أحد يقدر على هذا إلا الله تعالى، قال سبحانه: (كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا
لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ) (المائدة: 64).
التفسير الإيماني لأحداث غزة
وهذا ما يفسر
لنا ما جرى من حرب في «طوفان الأقصى»، وما جرى من صلح -شكلي- بعد عامين من الحرب،
وتفسيره أن كل هذا بدءًا وانتهاءً من قدر الله تعالى، ليتمم نصرًا للمؤمنين الذين
قاموا طائعين لله عز وجل.
وهذا لا يقلل من
قيمة من فكر ولا من خطط ولا من نفذ ولا من سعى للصلح لغرض الشهرة أو سعى لوجه الله
تعالى، فكل هؤلاء يحركهم الله تعالى بقدرته، فإن قلت ولم ذلك؟ يأتيك رد الله تعالى
عليك: (لِّيَقْضِيَ اللَّهُ
أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ
حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ) (الأنفال: 42).
_________________
(1) صحيح
البخاري (3950).
(2) سيرة ابن
هشام، ج1، ص607 – 609.