فلسطين قضية دينية
إن الكوارث
العسكرية التي أصابتنا خلال مُعظم معاركنا مع اليهود مزَّقت الملاءة المسدلة على
جسم مُمدد مُعتل، تسرح الجراثيم القاتلة في أوصاله طولاً وعرضاً، وأظنه ظهر لكل ذي
عينين أنَّ الأمة الرائعة الفارعة التي طوَّفت بالإسلام في المشارق والمغارب، قد
استحالت أمة واهية الخلق، مُعوجة السلوك، ضعيفة الأخذ لربها ولنفسها، يُفكر شبابها
في الملذات العاجلة، ويتسابق نساؤها وراء الزينات الفاضحة، ويذهب حُكامها عن شرائع
الله وحدوده المُقررة، وتتقطع علاقاتهم الروحية والاجتماعية به، فما يصطفون له في الصلوات
الجامعة والعبادة الخاشعة.
أفهذه مُؤهلات
النصر المُرتقب، ومُستنزلات التأييد الأعلى من المعز المذل؟
وزاد الطين
بلَّة أن الأمة التي استرخت قبضتها على تعاليم السماء عجزت كذلك أن تمسك بأسباب
النجاح الدنيوي المُعتاد، فظلال فشلها الديني امتدت إلى شؤونها السياسية
والاقتصادية والفنية والإدارية، فأصبح العمل الإنساني الميسور للآخرين يخرج من بين
يديها كما يخرج السقط من بطن الأم لا تعرف له ملامح، ولا يُرجى له بقاء.
الهزيمة بين عقيدة العدو وفوضى القيادة العربية
وقد تذكرت ببصر
دامع وقلب ملكوم هزيمة 1967، كان قائد الأعداء (موشى ديان) واسع الخبرة والحيلة،
وصل إلى منصب القيادة بعدما دمى بدنه، وهو يصعد من السفح إلى القمة وكان كما ظهر
من سيرته محدود الشهوة، ممدود الفكرة، خدوماً لعقيدته، معتزاً بدينه وكتابه، يقود
جيشاً على غراره إيماناً ونظاماً.
أمَّا نحن فقد اجتمعت
في قيادتنا (عبدالحكيم عامر) نقائص كُل الصفات التي توفرت لدى عدونا فهل كان
الحكيم الخبير يُلغى سننه الكونية وقوانينه الأزلية الأبدية فيجعل الفوضى تهزم
النظام، والهوى يغلب العقيدة؟
لقد انتهى العرب
إلى النتيجة التي صنعوا مُقدماتها، ديناً ودنيا، وسيبقون على خط الهزيمة ما بقيت
تلك المُقدمات مُوطدة لديهم.
فلسطين بين تحريف القضية وغياب العقيدة
ولقد كشفت هذه
الهزائم –خلال السنوات التي مضت على قيام «إسرائيل»، بل منذ «وعد بلفور» 1917م– أن
الأدوية التي وصفها الزعماء السياسيون للأمة المريضة لم تكن أدوية شافية، بل كانت
سُموماً كاوية، فإن أغلب هؤلاء الزعماء تشابهت قلوبهم في مُخاصمة الدين ونبذ
شرائعه وفضائله، ثم اختلفوا فمنهم من أعلن كُفره بالإسلام عقيدة وشريعة وعبادة
وتقاليد وأخلاقاً، ومنهم منْ طوى هذا الكفر في صدره من باب السياسة والكياسة وخداع
الجماهير، ثم مضى في طريقه يبعد الأمة عن دينها عملياً، فلا يرى نوراً للإسلام إلا
أطفأه ولا نشاطاً إلا عوَّقه، وخلال هذه المدة المُتطاولة من 1917 إلى الآن استطاع
اليهود -باسم الدين– أن يُحولوا وعداً خيالياً إلى حقيقة واقعة.
أمَّ نحن الذين
أبعدنا الإسلام عن المعركة، فقد ظللنا نتدحرج حتى بلغنا الوهدة التي سقطنا فيها،
وها نحن أولاء نُحاول جاهدين أن نخلص منها، وأن نقف على أقدامنا مرة أخرى، ومن
العجز أن نولول في آثار نكبة لحقتنا، إلا أنه من العقل أن نحول دون تكرار هذه
النكبات، ومن العقل أن ننصح المخطئين، وأن نصدهم عن المضي في طريق الخطأ القديم،
وإذا كانوا لا يُحسنون إلا السير في هذا الطريق، فليذهبوا إلى حيث ألقت، وليتركوا
الأمة لتعود إلى دينها، وتُعالج قضاياها بمنطق العقيدة والجهاد.
ألا فليعلموا
أنه عُرض على اليهود وطن قومي لهم في أوغندة، وفي مهاجر أخرى، فأبوا إلا فلسطين،
لماذا؟
قالوا هناك
نداءُ الإيمان والذكريات والتاريخ الأول، وانقاد الاستعمار لهم، ومنحهم أرضنا.
فلنتدبر هذا
المنطق اليهودي، ولنقس به مُقررات أحد المُؤتمرات العربية التي انعقدت من بضع سنين
ورأت أن قضية فلسطين قضية عربية بحتة، وقالت للمسلمين في كل مكان لا شأن لكم بها، أي
لغو وأي إفك؟!
إن قضية فلسطين
طول أدوار التاريخ قضية دينية، الغزاة الجُدد هجموا – كما زعموا – مُلبين نداء
الدين فلحساب منْ تُوصف قضية فلسطين بأنها عربية من شأن العرب وحدهم؟
إن الذين فعلوا
ذلك لم يُحرّفوا مفهوم القضية فقط، ولم يحرموها تأييد جماهير المسلمين فقط، بل
فعلوا ذلك ليمسخوا معناها الحقيقي عند العرب أنفسهم، ولينفسوا عن حقد ضد الإسلام
تعلموه من زبانية الغزو الثقافي المسيطرين على تيارات الفكر في بلادنا.
إن عاطفة التدين
تشد زناد النشاط الإنساني بقوة، وتبلغ به أبعد الآماد.. وعندما يفقد المسلمون هذه
العاطفة بتأثير الاستعمار الثقافي وهم يُقاتلون «إسرائيل»، فإنه يساوى حصول «إسرائيل»
على الانتصار الكامل علينا.
على أننا لا
نُطالب بالعودة إلى الإسلام لتكون هذه العودة إنقاذاً لسمعة العرب السياسية
والعسكرية، واسترداداً لخسائر لم ينقطع إلى اليوم سيلها.. لا.. إن هذه النتيجة
المُحققة سوف تجئ من تلقاء نفسها.. ولكننا نطلب العودة إلى الإسلام، لأن الإسلام
حياتنا ورسالتنا ومعاشنا ومعادنا، واختيار الله لنا، وتشريفه لماضينا ومُستقبلنا.
اقرأ أيضاً:
__________________
المصدر: كتاب
«الحق المر».