لماذا تخشى «إسرائيل» من مشاركة القوات التركية في غزة؟

د. أمجد بشكار

18 نوفمبر 2025

47

تشهد منطقة الشرق الأوسط في السنوات الأخيرة تحولات إستراتيجية متسارعة، تتبدل فيها موازين القوى وتتشكل تحالفات جديدة تعيد رسم خريطة النفوذ السياسي والعسكري، في قلب هذه التحولات تبرز تركيا باعتبارها قوة إقليمية صاعدة باتت تمتلك أدوات سياسية واقتصادية وعسكرية تجعلها لاعباً لا يمكن تجاهله.

ومع تزايد الحديث عن احتمالات تدخل تركي مباشر أو غير مباشر في غزة خلال فترات التصعيد، يبدو واضحاً أن «إسرائيل» تتعامل مع هذا السيناريو بقلق بالغ؛ لذا فالدولة التركية أصبحت تشكل مصدر خشية لـ«إسرائيل» حيث ترى أن دخول تركيا على خط الصراع قد يغير قواعد اللعبة في المنطقة.

تركيا قوة صاعدة تعيد تشكيل محيطها الإستراتيجي

خلال العقدين الأخيرين، تحولت تركيا من دولة تركز على الداخل إلى قوة إقليمية تمتلك حضوراً فعالاً في ملفات عدة؛ من سورية والعراق إلى ليبيا وشرق المتوسط، مروراً بالقوقاز والبحر الأسود، هذا التمدد لم يكن عسكرياً فقط، بل كان اقتصادياً ودبلوماسياً مصحوباً بصناعة دفاعية متقدمة تمكنت من تقديم منتجات مثل الطائرات المسيّرة التي غيّرت موازين القوة في أكثر من ساحة.

هذا الصعود التركي يُنظر إليه في «إسرائيل» كعامل تهديد محتمل مستقبلي لا يمكن الاستهانة به، فالجيش التركي ثاني أكبر جيوش «الناتو» عدداً، وتمتلك أنقرة خبرة قتالية واسعة اكتسبتها عبر عمليات مستمرة في سورية والعراق وضد تنظيمات مختلفة؛ لذلك، فإن احتمال مشاركة قوات تركية حتى لو كان محدوداً في قطاع غزة يُعد بالنسبة لـ«تل أبيب» خطوة يمكن أن تعقّد حساباتها العسكرية والسياسية.

انتقال مركز الثقل من إيران إلى تركيا

على مدى سنوات طويلة، كانت إيران اللاعب الأكبر في محور المناهض لـ«إسرائيل» من خلال دعمها لحركات المقاومة وتواجدها العسكري في سورية، لكن التطورات الأخيرة في المنطقة إلى جانب التغير في أولويات دول الخليج تشير إلى أن الحضور الإيراني لم يعد وحده العامل المؤثر، بل ظهرت الدولة التركية بكونها دولة سُنية ذات مؤسسات قوية واقتصاد كبير، وتمتلك عناصر نفوذ قد تجعلها بديلاً أو منافساً لإيران في قيادة خط المقاومة السياسية وربما العسكرية لسياسات «إسرائيل» في المنطقة.

هذا التحول يثير قلقاً مضاعفاً لدى «إسرائيل» لسببين أساسيين؛ القبول العربي الواسع لتركيا مقارنة بإيران، فتركيا دولة سُنية الهوية، وهو ما يجعلها أقرب إلى المزاج الشعبي العربي، إضافة إلى أنها لا تحمل الإرث الطائفي الذي لطالما ارتبط بالدور الإيراني؛ لذلك، فإن أي تحرك تركي في ملف غزة سيُقابل غالباً بتأييد شعبي عربي واسع، وربما أيضاً بقراءة إيجابية من بعض الأنظمة، وهو ما يمنح أنقرة قدرة على بناء تحالفات يصعب على إيران تحقيقها.

إمكانية التعاون التركي- العربي في ملف فلسطين

في السنوات الأخيرة، سارت تركيا والسعودية ومصر نحو تحسين العلاقات، وهو ما فتح الباب أمام تقارب أوسع وإذا تطور هذا التقارب ليشمل تنسيقاً حول غزة، فإن ذلك سيشكل محوراً إقليمياً كبيراً يمتلك ثقلاً سياسياً وعسكرياً واقتصادياً يصعب على «إسرائيل» تجاهله.

تدرك «إسرائيل» جيداً أن التوازنات الإقليمية كانت خلال العقود الماضية قائمة على غياب محور عربي موحد، لكن دخول تركيا كلاعب داعم للقضية الفلسطينية يغيّر هذا الواقع، فالسعودية ومصر وهما ركيزتان أساسيتان في المنطقة، قد تجدان في التعاون مع تركيا فرصة للموازنة بين النفوذ الإيراني والتأثير «الإسرائيلي»، إضافة إلى الاستفادة من القوة العسكرية والاقتصادية لأنقرة.

مثل هذا التحالف حتى لو كان غير معلن سيمنح الفلسطينيين غطاءً سياسياً قوياً وربما دعمًا لوجستيًّا وإنسانيًّا أكبر، وهو ما قد يقيّد حركة «إسرائيل» ويحد من قدرتها على فرض شروطها الميدانية والسياسية كما اعتادت.

علاقة تركيا الإيجابية مع أمريكا كعامل مقلق لـ«إسرائيل»

على الرغم من الخلافات بين أنقرة وواشنطن في بعض الملفات، فإن تركيا ما تزال شريكاً إستراتيجياً للولايات المتحدة في «الناتو»، وتحتفظ بخطوط اتصال دائمة مع الإدارة الأمريكية، هذا الوضع يضع «إسرائيل» أمام معادلة معقدة، فإذا تدخلت تركيا أو مارست دوراً أكبر في غزة، فلن يكون من السهل على «إسرائيل» معارضته بشكل مباشر، خصوصاً إذا لم يكن الموقف الأمريكي حاداً تجاه تركيا.

تدرك «إسرائيل» أن تركيا تستطيع استخدام موقعها داخل «الناتو» وعلاقاتها مع أمريكا لتخفيف الضغوط التي قد تتعرض لها بسبب مواقفها تجاه غزة؛ ما يعطيها هامش مناورة أوسع مقارنة بإيران التي تواجه عزلة دولية وعقوبات.

البعد العسكري.. هل يخشى الجيش «الإسرائيلي» من مواجهة مباشرة؟

من الناحية العسكرية، من غير المرجح أن تدخل تركيا في مواجهة مباشرة مع «إسرائيل»، لكن مجرد وجود احتمال ولو ضئيل يسبب قلقاً كبيراً لها، مشاركة قوات تركية في عمليات إنسانية أو أمنية في غزة يمكن أن تخلق مناطق محمية سياسياً تمنع «إسرائيل» من تنفيذ بعض العمليات العسكرية، وتفرض عليها قواعد اشتباك جديدة، إضافة إلى ذلك يمكن لتركيا أن توفر دعماً لوجستياً أو تقنياً للفلسطينيين في مجالات مثل تحسين الاتصالات والأنظمة الإلكترونية وتطوير الدفاعات المدنية وتقديم دعم طبي وهندسي واسع النطاق، وتقوية المؤسسات الإدارية داخل غزة، كل ذلك يُعد من منظور «إسرائيلي» تعزيزاً لصمود غزة، وبالتالي إضعافاً للقدرة «الإسرائيلية» على فرض الإملاءات بالقوة.

الدور التركي في الوعي العربي والإسلامي

تركيا تتمتع بصورة إيجابية لدى الشعوب العربية والإسلامية، خاصة بعد مواقفها العلنية من القضية الفلسطينية خلال السنوات الماضية، والخطاب السياسي التركي يتقاطع مع المزاج الجماهيري الرافض للسياسات «الإسرائيلية»؛ لذلك، فإن أي تدخل تركي سياسي أو عسكري أو إنساني في غزة سيحظى بدعم شعبي كبير، وهو ما يزيد الضغط على الحكومات العربية ويحد من هامش التحرك «الإسرائيلي».

«إسرائيل» لطالما اعتمدت على عامل التفكك العربي وضعف التفاعل الشعبي مع القضية الفلسطينية، لكن وجود لاعب كبير مؤثر شعبياً مثل تركيا يعيد الزخم للقضية ويصعّب على «إسرائيل» تمرير سياساتها، فالتحولات في المنطقة تسير بوتيرة أسرع مما تتوقعه دولة الاحتلال «الإسرائيلي»، النقطة الأساسية التي تزيد من قلق «إسرائيل» سرعة تغير المشهد الإقليمي خاصة التقارب بين تركيا والسعودية ومصر، وتحسن علاقاتها مع دول الخليج، كلها تحولات جرت خلال فترة قصيرة، وفي السياسة التغير السريع يعني فرصة أقل لـ«إسرائيل» لموازنته.

تخشى «إسرائيل» أن تجد نفسها خلال سنوات قليلة أمام محور إقليمي قوي بقيادة تركية مع دعم شعبي واسع، هذا المحور قد يدعم الحلول السياسية في غزة ويعزز الموقف الفلسطيني ويقلّص قدرة «إسرائيل» على المناورة.

الخلاصة أن تركيا جزء أساسي من المستقبل، وخشية «إسرائيل» ليست مجرد خوف من تحرك عسكري، بل هو خوف من تحول إستراتيجي شامل، كقوة سُنية معتدلة تمتلك علاقات جيدة مع الولايات المتحدة، وتتمتع بقبول عربي واسع، ولديها قدرات عسكرية متطورة وطموح سياسي كبير، فوجود هذه القوة في ملف غزة سواء عبر قوات على الأرض أو عبر دعم سياسي ولوجستي يعني بالنسبة لـ«إسرائيل» تغير قواعد الاشتباك وانحسار نفوذها الإقليمي وتقلص الاعتماد العربي عليها؛ لذا فإن بروز محور إقليمي جديد قد يقود جزءاً كبيراً من التوازنات في الشرق الأوسط.


اقرأ أيضاً:

القوة الدولية في غزة.. بين شرعية التفويض ومعضلة السيادة

تركيا و«إسرائيل» في سورية.. صدام أم تفاهم؟

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

جميع الأعداد

ملفات خاصة

مدونة