رحمة النبي بأمته.. أعظم صور الحنان والرأفة في الإسلام

اختيار الأمة ووسطيّتها نعمة من الله
رحم الله تعالى
هذه الأمة الأخيرة بمختلف أنواع النعم عن سائر الأمم حيث اختارها عليها وجعلها أمة
وسطاً لتكون شاهدة على الناس يوم القيامة، وجعل الوسطية في كل أمورها بحيث لا تبقى
تكاليفها على شدة ولا هوان، وأجزل لها في الأجر والثواب على الأعمال والأخلاق
أضعافا مضاعفة، وخفف عنها الأوزار والأحراج ووضع أمامها لمسحها التوبة والاستغفار،
وهكذا لا يوجد في هذه الدنيا ميزان يزن أوصافها ولا مقياس يحصر شمائلها، فإن جميع
هذه النعم ليس لها أي وجود لولا تلك النعمة التي تعمل كأصل هذه النعم هي رسول الله
محمد صلى الله عليه وسلم.
مكانة النبي ﷺ عند الله وحبه لأمته
على الرغم من أن
النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي وُجد هذا العالم لوجوده واعتلى عند الله بمحبته
وانطوى جميع الرسل والأنبياء تحت مظلة سيادته ونسخت كافة الشرائع والصحف والكتب
ببعثته إنه بالنسبة إلى أمته كالأم الحنون لصغيرها حيث لا تضعه على الأرض فيضره
النمل ولا تركبه الرأس فيدب عليه القمل.
القرآن الكريم يصف رحمة النبي ﷺ بأمته
نعم، لقد كان
النبي صلى الله عليه وسلم يعتبر هذه الأمة اعتباراً لم يسبق به أي نبي على أمته، وقد
أشار الله سبحانه تعالى إليه في القرآن الكريم حيث يقول: (لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ
عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ
رَّحِيمٌ) (التوبة: 128)؛ فقوله تعالى: (عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ) يشير إلى ما بينه ابن كثير رحمه الله في تفسيره هو أن يعز
عليه الشيء الذي يعنت أمته ويشق عليها(1)، فقد كان النبي صلى الله عليه
وسلم ببالغ حبه وحنان لأمته يخاف عليهم من وقوع الشدائد فيهم ويشق عليه ما يحدث
لها من المحن والعذاب.
فلولا ذلك الاعتبار لما وصلنا إلى هذه الدرجة من الراحة والاستئناس، ولولا ذلك النظر الشريف المشفق لما قطعنا هذه المسافة من الحياة، ولولا ذلك القلب العطوف لما اهتدينا إلى هذا الدين المقبول عند الله، ولولا ذلك اللمس اللطيف لما كنا مؤخرين حتى تقوم الساعة.
حرص النبي ﷺ على التخفيف عن أمته في التشريع
فقد كان النبي
صلى الله عليه وسلم يطرق كل باب أو يتطرق في كل سبيل أمام الله تعالى ليزيح عن
أمته المشاق والعاهات، ولم يحب أبداً أن يدخل تحت قدميها أهون الأشواك، وذلك أبين
وأوضح في أحد أحاديثه الشريفة حيث يقول: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك
عند كل صلاة»(2)، وهناك لهذا الحديث نظائر تشير إلى رحمة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته؛ حيث إنه يقول: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم أن يؤخروا
العشاء إلى ثلث الليل أو نصفه»(3).
موقف النبي ﷺ مع أهل الطائف
وإذا تصفحنا
صفحات تلك السيرة النبوية العطرة لن نفرغ منها إلا بعد أن نرى العديد من الأمثال
والنماذج لحنان الرسول صلى الله عليه وسلم ورأفته لأمته، فمن أعظم ما يدل على ذلك
ما أجابه النبي صلى الله عليه وسلم حين استأذنه ملك الجبال من أن يطبق الأخشبين (الجبلين)
على أهل طائف المشركين الذين بالغوا في جحوده والاستهزاء به وإيذائه وإصابة قدميه
رمياً بالحجارة وإراقة الدماء لما جاءهم مبلغاً لرسالة الإسلام وملتجئاً من أذية
قريش، فذلك حيث يقول: «بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك
به شيئاً»(4).
الإسراء والمعراج وتخفيف الصلاة رحمة بالأمة
وبينما كان
النبي صلى الله عليه وسلم يتجرع من آلام الوحدة بعد فراق زوجته وعمه جاء أمر الله
تعالى بأن يرتحل ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وأن يعرج منه إلى
حضرته فوق السماوات السبع تسلية له من سائر هذه المعاناة، وقد أنعم الله عليه
برؤيته له ومناجاته معه حتى أرسل معه هدية لأمته حين رجوعه إليها ألا وهي الصلوات
المفروضة خمسين وقتاً، إلا أنه صلى الله عليه وسلم التقى بموسى عليه السلام عند
نزوله فقال: «يا محمد، ماذا عهد إليك ربك؟ قال: عهد إليَّ خمسين صلاة كل يوم وليلة،
قال: إن أمتك لا تستطيع ذلك، فارجع فليخفف عنك ربك وعنهم».
فعاد إلى الله
طلباً منه أن يخفف فيها حتى جعل الله يخفف خمساً بعد خمس حسب اختلافه بينه وبين
كليمه عليه السلام تسع مرات حتى انتهى إلى موسى عليه السلام بالخمس إلا أنه يردد
ما قاله من قبل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا موسى، قد والله استحييْت من
ربي مما اختلفت إليه»، وبالرغم من أن النبي صلى الله عليه وسلم قادر بقوته وهمته
على أن يصلي خمسين وقتاً يوماً وليلة اعتبر في ذلك الموقف ضعف الأمة وعجزها، فهذه
أروع حكاية تبشرها بغاية محبته لها.
الهجرة النبوية وأسباب سريتها
وما إن اشتدت الاعتداءات والمضايقات من قبل قريش مكة نحو النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين حتى هاجروا بإذنه بما أن منهم من هاجر سراً مثل النبي صلى الله عليه وسلم ومن غادر مكة علناً مثل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فهنا بعض الناس يتساءل: ما الذي جعل النبي صلى الله عليه وسلم يهاجر سراً وكان أكثر قوة وهمة من عمر رضي الله عنه؟ هذا السؤال ليس له أي إجابة تجبر إلا أن نقول: هناك أسباب شتى لهجرة النبي صلى الله عليه وسلم سراً بما فيها تجنب التشريع بالهجرة علناً لمن يهاجر بعده من أمته.
دعاء النبي ﷺ لأمته في الدنيا والآخرة
وقد كان النبي
صلى الله عليه وسلم كثير الدعاء والاستغفار لأجل أمته عند كل الصلوات، حيث إن
عائشة رضي الله عنها تقول: لما رأيت من النبي صلى الله عليه وسلم طيب نفس قلت: يا
رسول الله، ادع الله لي فقال: «اللهم اغفر لعائشة ما تقدم من ذنبها وما تأخر ما
أسرتْ وما أعلنتْ»، فضحكت عائشة حتى سقط رأسها في حجرها من الضحك، قال لها رسول
الله صلى الله عليه وسلم: «أيسرك دعائي؟»، فقالت: وما لي لا يسرني دعاؤك؟ فقال صلى
الله عليه وسلم: «والله إنها لدعائي لأمتي في كلِّ صلاة»(5)، ولم تقتصر
أدعيته صلى الله عليه وسلم لها على هذه الصلوات إلا أنه كان يدعو ويبكي عندما يتلو
أدعية الأنبياء لأممهم فيقول: «اللَّهُمَّ أُمَّتي أُمَّتِي».
الشفاعة العظمى لأمته يوم القيامة
وهناك منظر جميل أحلى من المناظر الدنيوية للأمة المحمدية في أوقات الحساب والمحشر يتضح فيه أقصى مودة النبي صلى الله عليه وسلم ورحمته على أمته وأتم دعوة لها لسلامتها من معاناة الآخرة يسجد وقتها النبي صلى الله عليه وسلم أمام الله تعالى ويتضرع إليه ويدعو له من أجل أمته خاصة وسائر الأمم عامة، حيث إنه صلى الله عليه وسلم يقول: «لكل نبي دعوة، فأريد إن شاء الله أنْ أختبيَ دعوتي، شفاعة لأمتي يوم القيامة»(6).
فما أعظم حظنا
نحن الذين ينتمون إلى هذه الأمة الأخيرة بهذا النبي الكريم محمد صلى الله عليه
وسلم! حيث إنه أرشدنا إلى طريق السلامة والسعادة والهداية والرشاد.
دعوة للتقدير ورد الجميل لرسول الله ﷺ
فيا من يعتز
ويفتخر باسم هذا النبي اللطيف الحليم ما الذي نقابله له بكل هذه الجهود والصمود
التي بها جرفت العروق من جنابيه؟ ووكيف نعالج تلك الجروح والقروح التي بها سالت
الدماء والدموع من وجنتيه؟ وماذا الذي ادخرناه له لأجل نيل شفاعته؟ فبادروا
وسارعوا ولا تتمهلوا ولا تتساهلوا، فإن كل ما نفعله لأجله من أمر يسير يكون عند
الله أمراً عظيماً.
اقرأ أيضاً:
- رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بالضعفاء
- أرحم الناس بالمرأة
- «محمد» ﷺ يتفوق على العائلات الملكية في أوروبا
- قراءة في كتاب «حب النبي ﷺ»
______________________
(1) تفسير
القرآن الكريم لابن كثير (920).
(2) أخرجه
البخاري، كتاب الجمعة، باب السواك يوم الجمعة (887) ومسلم كتاب الطهارة، باب
السواك (252).
(3) أخرجه
الترمذي (167) واللفظ له، والنسائي (534) بنحوه، وابن ماجة (691) باختلاف يسير،
وأحمد (7412) مطولاً.
(4) صحيح
البخاري (3231).
(5) أخرجه
البزار كما في «كشف الأستار» للهيثمي (2658)، وابن حبان (7111) باختلاف يسير،
والحاكم (6748).
(6) صحيح مسلم (198).