لغز «فتاة الشيبسي»!

منى عبدالفتاح

31 أغسطس 2025

252

بين ليلة وضحاها، صارت «هايدي» أشهر فتاة في مصر، بعدما عرفت بـ«فتاة الشيبسي»، إثر انتشار مقطع فيديو لها وهي تقوم بإرجاع كيس البطاطس المقرمشة، عند رؤيتها عجوزاً محتاجاً، لكي تعطيه 5 جنيهات كانت في حوزتها.

المقطع المتداول وثقته كاميرا المراقبة بأحد المحلات، ليصبح «تريند» على وسائل التواصل، وحديث وسائل الإعلام والجهات الحكومية والقطاع الخاص والمشاهير وعامة الناس في مصر.

الجدل الصاخب والمفتعل لم ينته بعد، مع توالي تكريم هايدي من قبل المجلس القومي للطفولة والأمومة الذي أهدى الفتاة درع المجلس وبعض الهدايا العينية تكريماً لها، ومنحها لقب «سفيرة الرحمة»، إضافة إلى الاحتفاء بها من علامات تجارية معروفة.

لا شك أن الفعل الذي أقدمت عليه الفتاة الصغيرة -بتلقائية شديدة- سلوك محمود، وتصرف نبيل، وخلق رفيع، يمثل قيمة كبيرة في العطاء والبذل، وإيثار الآخرين، وتوقير الكبير، وإغاثة المحتاج، وإطعام الجائع.

ربما ما أقدمت عليه هايدي عجزت عنه حكومات طيلة عامين، لتوصيل الغذاء إلى سكان قطاع غزة التي يواجه حرب إبادة وتجويع، راح ضحيتها الآلاف، الذين لا يجدون لقمة خبز، أو كيس شيبسي.

أعادت الطفلة الصغيرة بعض الاعتبار للشارع المصري، الذي يشهد موجة من السفه والتفاهة، والمقاطع الخادشة للحياء، بحثاً عن تصدر «التريند»، من أجل تحقيق ملايين المشاهدات، وجني أرباح مالية كبيرة.

إلى هذا الحد، كان مبرراً الاحتفاء بهايدي، باعتبار ما فعلته نموذجاً حسناً ومعطاء، ولفتة إنسانية طيبة من طفلة فقيرة، حرمت نفسها من كيس شيبسي لتطعم محتاجاً ربما يكون أحوج منها إلى 5 جنيهات، لكن الأمر تجاوز الحدود.

نقطة نظام

«يا ريت أرجع هايدي العادية مثل السابق»، هكذا عبرت الفتاة عن قلقها، بعدما أصبحت مشهورة، تتسابق إليها محطات التلفزة، وكاميرات الصحافة، والعلامات التجارية الشهيرة، في محاولة لاستغلال براءتها، وتوظيف شهرتها من أجل مآرب أخرى.

بعض رجال الأعمال والفنانين، ومشاهير مواقع التواصل من «البلوجرز»، وغيرهم، يواصلون استغلال هايدي، واستثمار شهرتها في أغراض تجارية، وهو ما سينعكس على الفتاة بآثار سلبية، تنتهك خصوصيتها، وقد تعرضها للخطر، وقد تعصف باتزانها النفسي، وقد تصاب بـ«هوس الشهرة»، مع انحسار الأضواء عنها بمرور الأيام.

«شاهد.. أول ظهور لوالدة طفلة الشيبسي»، «جار طفلة الشيبسي يتحدث عن موقف بطولي لها»، «أول لقاء مع صاحب السوبر ماركت الذي باع الشيبسي للطفلة هايدي»، «تامر حسني يحقق طلب طفلة الشيبسي»، «تعليق مثير من فنان عن هايدي صاحبة تريند كيس الشيبسي»، «وزيرة التضامن توجه بدراسة حالة صاحب واقعة فتاة الشيبسي»، «مفاجأة.. نجل عم جمال يكشف أن رجل واقعة كيس الشيبسي ليس والده».

ما سبق عينة من استغلال «مهاويس» وسائل التواصل للواقعة؛ للبحث عن أي لقطة جديدة ترتبط بهايدي، وسط آلة إعلامية مدفوعة -بفعل فاعل- للإبقاء على حالة الزخم حول الفتاة، في محاولة لإشغال الناس عن مأساة غزة، أو احتجاجات السفارات، أو الغلاء الفاحش، أو لتمرير قرارات معينة، أو غير ذلك من أهداف أخرى، تتدثر بهذا الاهتمام المتزايد والمبالغ فيه تجاه تصرف إنساني بسيط، وموقف بريء وجميل.

تداعيات سلبية

الخطير في الأمر أن الاحتفاء بهايدي تحول إلى هدف استثماري، ودعائي؛ ما قد يغري الكثير من أصحاب العلامات التجارية بمحاولة التأثير على الفتاة، وتوظيفها لصالح أغراض مادية، كما يذهب الأمر برمته باتجاه «تسليع الخير»، واعتبار أي سلوك طيب أو صدقة أو زكاة، بمثابة إنجاز يتطلب تسليط الأضواء عليه من قبل وسائل الإعلام.

بعد سنوات، عندما تحقق هايدي إنجازاً دراسياً أو علمياً، دون أن تجد نفس درجة الاحتفاء بها التي عايشتها في واقعة كيس الشيبسي، قد تصاب بأزمة نفسية، وقد تتعرض لصدمة، تزج بها إلى دوامة الإحباط والاكتئاب.

الكثير من الأطفال قد يحاولون تقليد هايدي، دون أن يحصلوا على ذرة من اهتمام وسائل الإعلام، وقتها سيكون من الصعب عليهم إدراك أن ما فعلوه كان من أجل ابتغاء مرضاة الله، وليس لتصدر «التريند»، وقد يقارنون بين ما حدث معهم، وما نالته هايدي من تكريم وجوائز، وقتئذ، قد يشعرون بالظلم والتجاهل والإحباط، إذا لم يحظوا بنفس الحفاوة أو الشهرة التي نالتها فناة الشيبسي.

والأكثر خطورة على المجتمع ربط قيمة العطاء بالمكافآت أو الجوائز، أو الظهور الإعلامي؛ ما ينزع رداء الإخلاص عن أفعال الخير، ويغلفها بالنفاق والرياء وانتظار التصفيق والمكافآت، بدلاً من أن يصبح العطاء قيمة في ذاته.

إن فعل الخير ليس في حاجة إلى «تريند»، بل هو سلوك المسلم، قال سبحانه: (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (البقرة: 148).

وإن العطاء والتصدق وغير ذلك من صور البذل، لهو تنافس وتسابق إلى الجنات، مصداقاً لقول الله عز وجل: (سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (الحديد: 21).

ليتنا نوقف حملة تسليع الخير، ونحمي براءة أطفالنا من الاستغلال التجاري، والتوظيف السياسي، والاستهلاك الإعلامي، ولنجعل العطاء قيمة وليس مجرد «تريند».


اقرأ أيضاً:

«تيك توك» يربي أبناءنا!

الأكاديمي صابر حارص لـ«المجتمع»: العالم الافتراضي أحدث تصدعاً كبيراً في منظومة القيم

الوعي الشبابي في فخ «التريند»!


تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة