المسجد الأقصى من شعائر الله

جعل الله عز وجل لبعض الأماكن فضيلة ومكانة خاصة، وجعل لها حقوقاً على الأمة وأحكاماً خاصة تميزها عن غيرها، وإن من حسن الديانة تعظيم ما عظم الله، وتوقير ما وقر، والمسجد الأقصى من شعائر الله، فهو أولى القبلتين وثاني المسجدين ومهاجر إبراهيم عليه السلام ومسرى محمد صلى الله عليه وسلم ومعراجه إلى السماء، وهو معدن الأنبياء ومركز البركة الإلهية في الأرض.

وقد ذكر الله المسجد الشريف في كتابه فقال: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) (الإسراء: 1)؛ قال الحافظ ابن كثير: وهو بيت المقدس الذي بإيلياء، معدن الأنبياء من لدن إبراهيم الخليل، ولهذا جُمعوا له هناك كلهم، فأمَّهم في مَحِلَّتهم ودارهم، فدل على أنه الإمام الأعظم، والرئيس المقدم صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين.

ولا ريب أن إمامة النبي محمد صلى الله عليه وسلم للأنبياء في ذلك البيت العتيق دالة على انتقال ميراثه إليه وأمته، فعن أبي هريرة قال: قَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: «لَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي الْحِجْرِ وَقُرَيْشٌ تَسْأَلُنِي عَنْ مَسْرَايَ فَسَأَلَتْنِي عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَمْ أُثْبِتْهَا فَكُرِبْتُ كُرْبَةً مَا كُرِبْتُ مِثْلَهُ قَطُّ، قَالَ فَرَفَعَهُ اللَّهُ لِي أَنْظُرُ إِلَيْهِ، مَا يَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلاَّ أَنْبَأْتُهُمْ بِهِ، وَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الأَنْبِيَاءِ؛ فَإِذَا مُوسَى قَائِمٌ يُصَلِّي، فَإِذَا رَجُلٌ ضَرْبٌ جَعْدٌ كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ، وَإِذَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عليه السلام قَائِمٌ يُصَلِّي أَقْرَبُ النَّاسِ بِهِ شَبَهًا عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ، وَإِذَا إِبْرَاهِيمُ عليه السلام قَائِمٌ يُصَلِّي أَشْبَهُ النَّاسِ بِهِ صَاحِبُكُمْ يَعْنِي نَفْسَهُ، فَحَانَتِ الصَّلاَةُ فَأَمَمْتُهُمْ، فَلَمَّا فَرَغْتُ مِنَ الصَّلاَةِ قَالَ قَائِلٌ: يَا مُحَمَّدُ، هَذَا مَالِكٌ صَاحِبُ النَّارِ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ فَالْتَفَتُّ إِلَيْهِ فَبَدَأَنِي بِالسَّلاَمِ» (أخرجه مسلم).

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لاَ تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ: المَسْجِدِ الحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَسْجِدِ الأَقْصَى» (متفق عليه)، وهذا الحديث الشريف يجعل المسجد الأقصى موصولاً في حرمته ومكانته ووجوب صيانته بالحرمين الشريفين.

ودل القرآن الكريم على أن «الأقصى» مركز البركة الإلهية في الأرض، فقال تعالى: (وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء: 71)، (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ) (الأنبياء: 81)، (وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ) (سبأ: 18).

وقد روى الشيخان من حديث أبي ذر الغفاري قال: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الأَرْضِ أَوَّلَ؟ قَالَ: «المَسْجِدُ الحَرَامُ»، قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «المَسْجِدُ الأَقْصَى»، قُلْتُ: كَمْ كَانَ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: «أَرْبَعُونَ سَنَةً، ثُمَّ أَيْنَمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلاَةُ بَعْدُ فَصَلِّهْ، فَإِنَّ الفَضْلَ فِيهِ»؛ وهذا الحديث يحرر المسجد من التبعية التاريخية لأي ممن مروا عليه، فهو أسبق منهم جميعاً، وإنما يستحقه من شرفه الله فكلفه بالولاية عليه كما وقع في رحلة الإسراء من تشريف النبي صلى الله عليه وسلم وأمته برعاية القدس.

وقد حال بين الأمة ومسجدها وإقامة الشعائر فيه وشد الرحال إليه أظلم أهل الأرض وأطغاهم وأضلهم عن صراط الله المستقيم؛ فعاثوا في رحابه فساداً، وفي أهله وأهل أكنافه قتلاً وتجويعاً، والأمة صامتة لا تحرك ساكناً، رغم ما ثبت من أمر الله للمسلمين بالذود عنه ومن بشارته لهم بتحريره واتخاذه مركزاً للنور والحضارة وعاصمة لأمة الإسلام في آخر الزمان!

وفي الحديث عن أبي ذر قال: تذاكرنا ونحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أيهما أفضل: أمسجد رسول الله أم بيت المقدس؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صلاةٌ في مسجدي أفضل من أربع صلوات فيه، ولنعم المصلى هو، وليوشكن أن يكون للرجل مثل شطن فرسه من الأرض حيث يرى منه بيت المقدس خيرٌ له من الدنيا جميعاً»، قال: أو قال: «خيرٌ له من الدنيا وما فيها».

وفي الحديث السابق بشارة بفتح بيت المقدس، وقد تحقق ذلك مرتين؛ الأولى: الفتح العمري، والثانية: التحرير الصلاحي، والثالثة: الميلاد الثاني الموعود لأمة الإسلام في آخر الزمان؛ وهو ما بشر به النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بينا أنا نائم إذ رأيت عمود الكتاب احتمل من تحت رأسي، فظننت أنه مذهوب به، فأتبعته بصري، فعمد به إلى الشام، ألا وإن الإيمان حيث تقع الفتن بالشام».

وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن راية الإسلام في أكناف بيت المقدس لن تنكسر حتى يأتي الوعد الإلهي؛ فعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أبواب دمشق وما حوله وعلى أبواب بيت المقدس وما حوله لا يضرُّهم من خذلهم ظاهرين على الحق إلى أن تقوم الساعة».

وإن واجب المسلمين العقدي والشرعي يحتم عليهم أن يبادروا بكل السبل للذود عن مسرى نبيهم ووعد ربهم، لا من باب الدعم الإنساني لأهل غزة، ولا من باب حق الرحم والجوار، ولا حتى بمقتضى حماية الأمن القومي لبلدان الأمة -وإن كان هذا كله مطلوباً مرغوباً- وإنما وفاء بالتكليف الإلهي بحماية المسجد المبارك، واستشرافاً للوعد الرباني بأن الذائدين عنه هم معدن الإسلام في آخر الزمان.

ولن تجني الأمة من وراء قيامها بالواجب الشرعي في حماية المسجد الأقصى وأكنافه المباركة إلا خير الدنيا وكرامة الآخرة، كما أنها لن تجني من خذلان مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تسلط الأعداء على الجميع بغير استثناء، وما أصدق قول الشاعر حين محض بنيه النصيحة فقال:

كونوا جميعاً يا بني إذا اعترى           خطب ولا تتفرقوا آحادا

تأبى الرياح إذا اجتمعن تكسرا            وإذا افترقن تكسرت أفرادا


تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة