كيف تحول تهويد «الأقصى» إلى سياسة رسمية لحكومة الاحتلال؟

زياد ابحيص

18 أغسطس 2025

192

تحولات قيادة المشروع الصهيوني

من يدرس تاريخ قيادة المشروع الصهيوني قبل تأسيس الكيان وبعده، يدرك أنه تاريخ انزياح تدريجي نحو اليمين، بدأ بنخبة تتبنى مركزية أوروبية وتحاول محاكاة الأفكار الغربية في أطروحاتها، فقدمت الصهيونية باعتبارها الحركة القومية للشعب اليهودي باعتباره قومية من قوميات أوروبا التي تحتاج إلى تجسيد ذاتها، لكنها لتفعل ذلك لا بد أن «تعود إلى موطنها الأصلي» المزعوم في فلسطين، وقد سميت هذه النخبة زوراً بـ«اليسار الصهيوني».

ويمكن القول: إن هذه النخبة مثّلها حزب العمل بمختلف مراحل تطوره، وحزب ميرتس ككتلة أصغر، وهيمنت على المشروع الصهيوني منذ منتصف ثلاثينيات القرن العشرين وحتى عام 1996م.

ومن ثم انتقلت قيادة المشروع الصهيوني بعد ذلك إلى نخبة تنقيحية كانت ترى في فكر سابقتها مغالاة في محاكاة المركزية الأوروبية على حساب «الجوهر اليهودي» للصهيونية، وكانت تسعى إلى تصحيح ذلك بالارتكاز على مقولات توراتية في تعريف مضامين القومية اليهودية، على اعتبار أن التوراة والكتب الدينية تشكل تراث «الشعب اليهودي» وثقافته، ومن هنا كان منهجها استدخال المقولات التوراتية إلى الصهيونية بعد علمنتها لتقدم باعتبارها جزءاً من «القومية اليهودية».

وقد سمي هذا التيار بـ«الصهيونية التنقيحية» التي مثلها لاحقاً حزب حيروت ثم الليكود، وكان أول خرق له في تشكيل الحكومة الصهيونية عبر مناحيم بيغن في عام 1977م، وانتقل إلى الهيمنة على النظام السياسي الصهيوني منذ عام 1996م وحتى اليوم.

في مرحلة الصهيونية الأولى كان الهدف تجاه «الأقصى» والقدس عموماً احتلالها والسيطرة عليها

النخبة الثالثة التي تجري عملية تحولها نحو قيادة المشروع الصهيوني اليوم هي «الصهيونية الدينية»، وهي ترى أن عملية علمنة المقولات التوراتية واستيرادها إلى الصهيونية كمقولات قومية كلها عملية فائضة عن الحاجة وتشوه جوهر اليهودية والصهيونية، وترى أن الصهيونية حركة مزدوجة الطابع، فهي قومية ودينية في الوقت عينه، ولا حاجة للمغالاة في تقديمها باعتبارها حركة علمانية قومية، وأن ما خسره الكيان الصهيوني بسبب النخبتين السابقتين هو جوهره الأكثر أهمية؛ وهو أن يكون «مملكة الرب» التي تحظى بمباركته وتأييده، ومن هنا تتبنى هذه النخبة عملية تغيير داخلي شامل للصهيونية حتى تؤهل «إسرائيل» لأن تصبح «مملكة الرب»، كما تسعى في الوقت عينه إلى تحقيق وعد الرب ونبوءات التوراة.

وهذا التيار اليوم ما زال في صعود، وهو موزع اليوم بين عدة أحزاب يجمعها ائتلاف حزبي يسمي نفسه «الصهيونية الدينية»، كما أن حزب الليكود يسعى عن سبق إصرار على احتواء جزء واسع من المؤمنين به حتى يمنع استبداله من الحكم مع استمرار عملية التحول نحو اليمين.

مع كل انتقال نحو اليمين، كانت النظرة الصهيونية للمسجد الأقصى تتغير، وكانت مكانته تتصاعد حتى بات مركزاً للصراع، ففي مرحلة الصهيونية الأولى ذات المركزية الأوروبية كان الهدف تجاه المسجد الأقصى ومدينة القدس عموماً احتلالها والسيطرة عليها، والحصول على تفويض دولي لهذا الاحتلال على أمل أن يتحول مع الزمن إلى اعتراف وقبول، وقد تحقق لهم ذلك باحتلاله عام 1967م.

.. ومع الانتقال نحو نخبة «الليكود» بات الهدف استعراض «السيادة الصهيونية» على «الأقصى»

ومن ثم مع الانتقال نحو نخبة الليكود بات الهدف تجاه «الأقصى» استعراض «السيادة الصهيونية» عليه، باعتباره جزءاً لا يتجزأ من «أرض إسرائيل» التي هي مفهوم توراتي يؤسس لفكرة «إسرائيل الكبرى»، وقد تُرجم ذلك بالاستيلاء على الخلوة الجنبلاطية في عام 1982م وفرض تحويلها إلى مركز لشرطة الاحتلال، ثم بافتتاح النفق الغربي تحته في عام 1996م، وبعدها باقتحام شارون له في عام 2000م مفجراً شرارة «انتفاضة الأقصى».

تصعيد الأجندة الدينية في «الأقصى»

اليوم، ومع صعود نخبة الصهيونية الدينية، وما تحظى به من تعاطف واحتضان من النخبة المسيطرة حتى الآن في حزب الليكود، فقد مهد ذلك لتصعيد أجندتها تجاه المسجد الأقصى لتصبح الأجندة المركزية، رغم أنها ما تزال لم تصل إلى مرحلة النخبة المهيمنة بعد، وسقفها الجديد تجاه المسجد الأقصى المبارك هو إزالته من الوجود وتأسيس «الهيكل» في مكانه وعلى كامل مساحته؛ أي أنها باتت تتطلع إلى تطبيق مبدأ الإحلال على المقدس، لتتبنى بذلك بعداً إضافياً للإحلال هو «الإحلال الديني»، وتبنت لأجل ذلك مرحلة انتقالية مضت في مسارات ثلاثة؛ هي: التقسيم الزماني، والتقسيم المكاني، والتأسيس المعنوي لـ«الهيكل» المزعوم.

كانت نقطة التحول نحو الإحلال الديني في عام 2003م، بقرار حكومة الاحتلال السماح للمستوطنين الصهاينة باقتحام المسجد الأقصى بشكل يومي، وتكليف شرطة الاحتلال بتأمين اقتحاماتهم، وبدأ الأمر باقتحامات فردية أو ضمن مجموعات صغيرة لم تكن تزيد على 5 أشخاص، ثم انتقلت في عام 2006م لتصبح أفواجاً يتألف كل منها من 20 مقتحماً، مع السماح بتواجد فوج واحد داخل «الأقصى» في اللحظة الواحدة، بقيت تزداد في العدد حتى وصلت إلى 200 مقتحم في الفوج الواحد في عام 2024م.

التقسيم الزماني والمكاني لـ«الأقصى»

في عام 2008م، فرضت قوات الاحتلال أوقاتاً خاصة للاقتحامات ما بين الساعة 7:00 وحتى الساعة 10:00 صباحاً بواقع 3 ساعات، لكنها بقيت تتوسع مع الزمن حتى باتت في أغسطس 2025م نحو 6 ساعات وربع ساعة، موزعة على فترتين للاقتحامات؛ واحدة مع وقت الضحى، والثانية بعد صلاة الظهر، هذا المسار الصاعد لفرض الاقتحامات هو ما اصطُلح على تسميته بـ«التقسيم الزماني».

وعلى خطٍّ موازٍ للتقسيم الزماني، شهد «الأقصى» محاولة لاقتطاع أجزاء منه؛ بدأت الأولى منها مبكراً في مفاوضات الحل النهائي في عامي 1999 و2000م بالحديث عن مفهوم «الفضاء التحتي»؛ أي تقاسم المسجد الأقصى بحيث يصبح ما تحت الأرض لليهود وما فوقها للمسلمين، وهو ما رُفض فلسطينياً في حينه.

.. ومع صعود «الصهيونية الدينية» أصبح سقفها إزالة «الأقصى» وتأسيس «الهيكل» على كامل مساحته

تلت ذلك محاولة لتحويل ساحة المسجد الأقصى –التي تشكل 94% من مساحته- إلى ساحة عامة تابعة لبلدية الاحتلال ومحاولة حصر القدسية الإسلامية بمبنيين فقط؛ هما الجامع القبلي، وقبة الصخرة، وجاء ذلك في الخريطة الرسمية لمشروع مخطط القدس الهيكل لعام 2020م، والمقدم في عام 2004م، ومن ثم بدأت محاولات المقتحمين إطالة مدة اقتحامهم في الساحة الجنوبية الغربية لـ«لأقصى» والتجول فيها بدءاً من عام 2008م، وهو ما جابهه المرابطون والمرابطات في مصاطب العلم.

فانتقل التركيز في عام 2013م إلى الساحة الشرقية لـ«الأقصى» مع محاولة تفريغها وصولاً لمحاولة قضم مصلى باب الرحمة في عام 2019م، وهو ما أفشلته «هبة باب الرحمة»، ويصطلح على تسمية هذا المسار بـ«التقسيم المكاني».

مع بلوغ التقسيم الزماني مرحلة متقدمة ثبت عندها، وعدم تحقق التقسيم المكاني سواء تحت المسجد أو في ساحته الجنوبية الغربية أو في ساحته الشرقية بعد «هبة باب الرحمة» عام 2019م، مرّ مشروع تهويد المسجد الأقصى بارتباك مؤقت سرعان ما تعافى منه بتقديم أجندة جديدة هي فرض الطقوس التوراتية في «الأقصى»، والتعامل معه وكأنه قد بات «الهيكل» المزعوم حتى وإن كانت أبنيته ما تزال إسلامية، وهو ما اصطلح بتسميته بـ«التأسيس المعنوي للهيكل»، سواء بفرض الطقوس التوراتية مثل الصلوات والانبطاح المسمى «السجود الملحمي»، أو بإدخال الملابس وأدوات الصلاة التوراتية، أو حتى بمحاولة تقديم القرابين في «الأقصى» للتعامل معه وكأنه قد بات «الهيكل»، وهذا المسار كان في واجهة التهويد عند انطلاق معركة «طوفان الأقصى»، وما يزال.


تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة