التركة الباقية

د. محمد البربري

22 سبتمبر 2025

279

قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوماً لبعض ولد هرم بن سنان: أنشدني بعض ما قال زهير فيكم؛ فأنشده، فقال عمر: لقد كان يقول فيكم فيحسن، فقال: يا أمير المؤمنين، وإنا كنا نعطيه فنجزل، فقال عمر قولة الناقد البصير الذي تذوق الشعر ويدرك مدى تأثيره وسر بقائه: ذهب ما أعطيتموه وبقي ما أعطاكم(1)، فيا ترى من هو زهير بن أبي سلمى؟ وما أهم صفاته كما جاء في بطاقة التعريف به؟

إنه من أهم وأشعر شعراء العرب في العصر الجاهلي، وكان يلقب بـ«حكيم الشعراء» و«شاعر الحوليات» أحد الشعراء الثلاثة المتقدمين على سائر الشعراء، وهم: امرؤ القيس، وزهير، والنابغة الذبياني.

كان حكيماً ورعاً يعدونه من مترهبة العرب، قال ابن الأعرابي: كان لزهير في الشعر ما لم يكن لغيره؛ فقد كان أبوه شاعراً، وخاله شاعراً، وأخته سلمى شاعرة، وابناه كعب، وبجير، شاعرين، وأخته الخنساء شاعرة(2)!

ويعد من المعمرين، فقد تجاوز المائة عام، وتوفي قبل البعثة بوقت قصير، كان زهير يمدح، ولكنه يتصف في مديحه بالصدق والواقعية، فلا يصف إلا ما يجد، ولا يعبر إلا عما أحس دون غلو أو شطط، وهذا سر إعجاب الفاروق رضي الله عنه به وثنائه عليه.

الثناء الصادق

الثناء الصادق دليل على كرم السجية ونقاء الطوية، فكيف لو كان من رب البرية لمن اصطفاهم من خيرة البشرية؟! ولهذا سلكت هداية القرآن الكريم هذا المهيع المتسع، فكثيرة هي الآيات التي ورد فيها الثناء من الرحمن على بعض عباده الصالحين، ففي حق نوح عليه السلام قال جل ثناؤه: (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً) (الإسراء: 3)، وقال سبحانه في حق إبراهيم عليه السلام: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ) (هود: 75)، (وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ {45} إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ {46} وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ {47} وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِّنْ الْأَخْيَارِ) (ص).

وفي رأس العلم رسولنا المعظم المكرم صلى الله عليه وسلم فهو أرفع الناس قدراً، وأبقاهم ذكراً، وأكثرهم للخلق نفعاً، ويكفيه فضلاً وشرفاً قول رب المشرقين طولاً وعرضاً: (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) (الشرح: 4)، وفي السُّنة النبوية والسيرة المحمدية ميدان رحب الأرجاء لصاحب السيرة الطيبة التي لا ينكرها حتى الأعداء، والثناء الحسن نهج الأنبياء وطريق الأوفياء، لذا طلبه الخليل من الرب الجليل فقال: (وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) (الشعراء: 84).

وعن تفسير الآية السابقة يقول صاحب «الظلال»: «دعوة تدفعه إليها الرغبة في الامتداد، لا بالنسب ولكن بالعقيدة؛ فهو يطلب إلى ربه أن يجعل له فيمن يأتون أخيراً لسان صدق يدعوهم إلى الحق، ويردهم إلى الحنيفية السمحاء دين إبراهيم، ولعلها هي دعوته في موضع آخر؛ إذ يرفع قواعد البيت الحرام هو وابنه إسماعيل ثم يقول: (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ {128} رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ) (البقرة).

وقد استجاب الله له، وحقق دعوته، وجعل له لسان صدق في الآخرين، وبعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم، وكانت الاستجابة بعد آلاف من السنين، هي في عرف الناس أمد طويل، وهي عند الله أجل معلوم، تقتضي حكمته أن تتحقق الدعوة المستجابة فيه(3).

الميراث الحقيقي

يقولون: ألسنة الخلق أقلام الحق، والذكر الحسن ثمرة العمل الصالح، وهو سبب لمحبة الرحمن ودخول الجنان، وإن كانت السيرة الحسنة كشجرة الزيتون لا تنمو سريعاً لكنها تعمر طويلاً، فالعاقل من يعي أنها الميراث الحقيقي الذي يخلفه من بعده له ولأولاده، وهي عمره الثاني يبنيه الإنسان في حياته القصيرة ليكون عمره المديد في نومته الطويلة، وهي أعظم ثروة من كل كنوز الدنيا لأنها من الدلائل والبشريات على صدق الفعال وحسن الحال وعقبى المآل.

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: مُرَّ بجَنَازَةٍ فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا خَيْرًا، فَقالَ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: «وَجَبَتْ، وَجَبَتْ، وَجَبَتْ»، وَمُرَّ بجَنَازَةٍ فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا شَرًّا، فَقالَ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: «وَجَبَتْ، وَجَبَتْ، وَجَبَتْ»، قالَ عُمَرُ: فِدًى لكَ أَبِي وَأُمِّي، مُرَّ بجَنَازَةٍ، فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا خَيْرٌ، فَقُلْتَ: وَجَبَتْ، وَجَبَتْ، وَجَبَتْ، وَمُرَّ بجَنَازَةٍ، فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا شَرٌّ، فَقُلْتَ: وَجَبَتْ، وَجَبَتْ، وَجَبَتْ؟ فَقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: «مَن أَثْنَيْتُمْ عليه خَيْرًا وَجَبَتْ له الجَنَّةُ، وَمَن أَثْنَيْتُمْ عليه شَرًّا وَجَبَتْ له النَّارُ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللهِ في الأرْضِ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللهِ في الأرْضِ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللهِ في الأرْضِ» (صحيح البخاري، 1367).

ويلخص الإمام ابن القيم في «مدارجه» هذا المعنى بعبارة وجيزة فيقول: «إن قلوب الصادقين لا تشهد بالزور البتة، فإذا أخفي عليك شأنك وحالك، فاسأل عنك قلوب الصادقين؛ فإنها تخبرك عن حالك»(4).

رحم الله الفاروق في قوله الفصل: «ذهب ما أعطيتموه، وبقي ما أعطاكم»؛ فكم من العلماء العظماء والنجباء الشرفاء قد غيبهم الأجل وطواهم الموت وما زالت مآثرهم وآثارهم، وممادحهم ومفاخرهم، تبعث في المجالس طيباً وعرفاً، يحمل الناس على فعل الجميل والاقتداء الحسن!

وفكر معي في الختام قبل الملام وحشرجة الكلام: الناس قسمان: قسم تتبعه ألسنة الناس شاكرة مادحة، وآخر تتبعه ألسنة الناس لاعنة قادحة؛ ففي أي القسمين أنت؟




_________________

 (1) شرح ديوان زهير، ص15.

 (2) تاريخ آداب العربية (3/ 156).

 (3) في ظلال القرآن (5/ 2605).

 (4) مدارج السالكين (3/ 194). 


تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة