قراءة في أشكال الدعم لضحايا التسريبات

لا شك أن للتسريبات خاصة الجنسية منها أثراً بالغ السلبية على أصحابها، فهي ليست مجرد حدث إعلامي عابر ولا مادة للفضول أو التندر، بل صدمة أخلاقية ونفسية قد تجر صاحبها لعواقب وخيمة تمتد إلى سمعته وحياته الاجتماعية واستقراره النفسي.

وما يزيد من خطورة هذه الظاهرة ليس فقط حجم الأذى المباشر الذي تحدثه، بل الطريقة التي يتعامل بها المجتمع مع ضحايا التسريبات؛ إذ سرعان ما يتحول النظر من مرتكب فعل الفضح والكشف إلى من وقع عليه اعتداء الفضح فتصبح الضحية وحدها المدانة بينما يتحول منتهك الخصوصية (في الغالب) إلى صاحب بطولة زائفة.

وعليه، فليس من المبالغة القول: إن المجرم في قضايا التسريبات ليس هو من طالته الفضيحة، بل هو من ارتكب جريمة إفشاء خصوصية إنسان، وبث ما لا يجوز كشفه.

وهو ما تنبه إليه الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه في القصة التي رواها القرطبي، إذ قال عبدالرحمن بن عوف: حرست ليلة مع عمر بن الخطاب بالمدينة، إذ تبين لنا سراج في بيت بابه مجاف على قوم لهم أصوات مرتفعة ولفظ فقال عمر: هذا بيت ربيعة بن أمية بن خلف، وهم الآن شرب فما ترى؟ قلت: أرى أنا قد أتينا ما نهى الله عنه، قال تعالى: (وَلَا تَجَسَّسُوا) (الحجرات: 12)، وقد تجسسنا فانصرف عمر وتركهم.

والدلالة الأهم لهذه القصة أنها تشير بوضوح إلى أن الاعتداء على الخصوصية الجريمة الأصلية، وأن تتبع العورات وملاحقة ما خفي عن الناس أمر يرفضه الشرع رفضاً قاطعاً.

وبالطبع، تكون الجريمة أكثر قبحاً إذا ما تعلقت التسريبات بأشخاص لم يرتكبوا خطأ أخلاقياً أو قانونياً؛ كأن يمارسوا حياتهم بشكل طبيعي، إلا أن جريرتهم أنهم كانوا ضحايا لمن انتهك خصوصيتهم أو وثقوا بمن لا يستحق الثقة كهؤلاء الأزواج ممن انعدمت لديهم النخوة والمروءة فقاموا بتصوير زوجاتهم في أوضاع خاصة ثم قاموا بفضحهن عند وقوع خلاف!

في هذا الإطار، فإنه إذا كان فهم طبيعة الجريمة ووضع المسؤولية في مكانها الصحيح يمثل الخطوة الأولى نحو تصحيح الوعي المجتمعي، فإن الخطوة التالية لا تقل أهمية إذ تتمثل في كيفية التعامل مع الضحية نفسها والتخفيف من الآثار النفسية والاجتماعية والقانونية التي خلفتها عملية التسريب عبر تقديم أشكال مختلفة من الدعم.

الدعم النفسي

من المؤكد أن كشف أسرار الضحية ليس تعرية مادية فحسب، وإنما أيضاً تعرية معنوية يفقد معها الضحية الإحساس بالأمان ويصيبه بالعديد من المشكلات النفسية كالصدمة والذهول والخوف والقلق وفقدان السيطرة على الذات، حيث الشعور بأن الحياة خرجت عن إطار التحكم، وهي المشكلات التي تؤدي في الغالب إلى المعاناة من جلد الذات وربما الاكتئاب واضطرابات النوم.

إزاء ذلك، يصبح الدعم النفسي ضرورة للضحية الذي يمكن أن يتمثل في عدة أشكال، منها تقديم المساندة من خلال إبداء التعاطف ليس مع ما ارتكبه، ولكن مع انتهاك خصوصيته، وبالتالي إقامة حوار هادئ مع الضحية بهدف الاحتواء العاطفي شريطة الإنصات الجيد له، ومراعاة ألا يصاحب ذلك توجيه أي عبارات قاسية أو تحمل اللوم أو حتى تشعره بالتحقيق معه.

ومن ذلك، التأكيد لضحايا التسريبات خاصة الذين تعرضوا للابتزاز أن ما حدث ليس خطأهم، وإنما خطأ من انتهك حياتهم الخاصة، وهو السلوك الذي يساهم بشكل أو بآخر في لفت نظر الضحية (ولو قليلاً) بعيداً عن شعوره بالذنب.

أما في حالة تفاقم حالة الضحية والشعور بإصابته بمشكلات نفسية كالقلق واضطراب النوم والتوتر والضغط الناتج عن الفضيحة التي يمكن أن يكون لها أثرها السلبي الخطير على نفس الضحية؛ فعندها يمكن مساعدتهم في إحالتهم إلى أطباء أو مختصين نفسيين لعلاجهم وتأهيلهم.

الدعم الاجتماعي

ليس خافياً أن من أهم الآثار الناجمة عن التسريبات أن يتعرض ضحاياها إلى ما يشبه الهزة الاجتماعية؛ فتتهدد مكانتهم الاجتماعية، أو تنهار أسر بعضهم أو تتفكك عرى علاقاتهم الاجتماعية؛ فيجدون أنفسهم في موضع الاتهام والتحقير أو الشك والتنمر من كل من حولهم؛ ما يشعرهم بالوصمة التي تنجم عنها رغبة ملحة في العزلة والانطواء.

والحقيقة أن تقديم الدعم الاجتماعي في مثل هذه الحالات ليس سهلاً ويسيراً؛ إذ المواجهة هنا مع ثقافة مجتمعية متجذرة شكلتها العديد من العوامل؛ وعليه، فإن الأفضل والأكثر منطقية تقسيم مجتمع الضحايا لعدة دوائر والعمل مع كل دائرة بما يلائمها.

فعلى مستوى المحيط الاجتماعي الخاص بالضحية، سواء كان ذلك الأسرة أو الجيران أو زملاء العمل، فإنه يمكن الدفاع عن الضحية عبر خطاب واع يذكّر بعمق العلاقات ويجرم فعل الفضح لا الضحية، ويذكر بأنه في حاجة ماسة لمساعدتهم لتخطي الأزمة، فضلاً عن حل ما يمكن أن ينشب من نزاعات خاصة داخل الأسرة.

كذلك يمكن الدفع بإطلاق مبادرات مجتمعية لتوفير الحماية الاجتماعية للضحايا عبر مجموعات داعمة أو منظمات المجتمع المدني، وتعقب المتنمرين والمروّجين للتسريبات، ومن ثم توجيه اللوم لهم كون أن سلوكهم لا يتوافق مع الشرع أو القانون أو حتى الأعراف والتقاليد.

كما يأتي الدعم القانوني كإحدى وسائل الدعم الاجتماعي، فقد باتت القوانين في أغلب البلدان أكثر صرامة تجاه هذه الجرائم، حيث تمنح الضحية الحق في المقاضاة وملاحقة القائمين على التسريبات والدفع بالتحرك الفعال لحذف محتواها من المنصات أو حظر نشرها مجدداً.

وهنا يمكن للمبادرات المجتمعية أن ترشد الضحايا إلى جهات مختصة توفر استشارات قانونية سواء عبر محامين متطوعين أو مؤسسات معنية بحماية الخصوصية، مع توجيههم لكيفية توثيق الأدلة بطريقة صحيحة تحفظ حقوقهم فضلاً عن مساعدتهم في تقديم بلاغات رسمية ضد من سرب المحتوى أو أعاد نشره أو استخدمه في الابتزاز.

ويتبع ذلك التوعية الاستباقية من خلال التأكيد على أن التسريبات في حد ذاتها جريمة لا تقل خطورة عن السرقة والاعتداء، وأن الكرامة الإنسانية أعلى من الفضائح، وأن احترام خصوصية الناس واجب ديني وقانوني وأخلاقي.

الدعم الإعلامي

يؤدي الإعلام دوراً كبيراً في تفخيم مشكلة التسريبات، فاتساع دائرة التداول والنشر وإعادة النشر مجدداً، أو حتى الحديث عنها بطريقة فضائحية؛ بمثابة مشاركة غير مباشرة في الجريمة والترويج لها، ومساعدة منتهكي الخصوصيات، فضلاً عن أن ذلك يقلل من فرص تخطي الضحايا لأزمتهم بمختلف مستوياتها.

لكن وفي مقابل ذلك، فإن هذا الدور الإعلامي نفسه يمكن أن يتحول إلى قوة داعمة تخفف من آثار الأزمة وتعيد الاعتبار للمظلومين، فيمكنه أن يمتنع عن إعادة نشر المحتوى المسرب التزاماً من وسائل الإعلام بميثاق شرف مهني يمنع نشر التسريبات أو الإشارة إلى تفاصيلها.

كما يمكن للإعلام أن يوجه خطابه النقدي للجاني وليس لضحايا التسريبات، فيظهر أن الجرم الحقيقي في التجسس وإفشاء الأسرار ما يخفف من وطأة الآثار الاجتماعية على الضحايا، ويحد في الوقت ذاته من تفشي الظاهرة مستقبلاً.

إن تعامل الإعلام بمسؤولية مع الظاهرة مع القيام بدوره التثقيفي من خلال البرامج والتقارير حول خطورة نشر التسريبات سيجعل منه أداة للحماية والعدالة ويسهم في بناء ثقافة تحترم خصوصية الإنسان.



اقرأ أيضاً:

قراءة الغزالي في فضيحة «إبستاين»

ثقافة الفضيحة.. كيف أثرت على مجتمعاتنا؟

زمن «الفضيحة الحلال».. من همس الإفك إلى فوضى التسريبات!

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

جميع الأعداد

ملفات خاصة

مدونة