محاربة العروبة.. مدخل الغرب لهدم أمة الإسلام (1 - 2)

معلوم أن العُروبة قلب الإسلام، فعلى أرضها أُنزل، ومن شعاب هذه الأرض انطلق نوره ليشرق على العالمين، ومعلوم أيضاً أن العربية لغة القرآن ووعاؤه ولسان علومه، وطالما كانت أمة الإسلام في سؤدد وعزة وتقدم، بقلبها العربي الحيوي القوي الفاعل، كانت العروبة تاجاً فوق الرؤوس، لكن ما أن تمكّن سرطان الضعف من جسد الأمة، حتى أعمل أعداؤها مشرط التشريح في جسدها المريض لا سيما قلبها العربي.

في هذا المقال، نرصد إستراتيجيات أعداء العُروبة ووسائلهم في هذا الخصوص، وكذا مآربهم، بالإضافة إلى التعرف على ما أنجزوه، وذلك الذي ما زالوا يعملون على إنجازه، وأخيراً تفنيد ما تردده أبواقهم -العربية!- من هجوم على العروبة، ودعواهم للانسلاخ منها والخروج من تحت عباءتها.

أولاً: لماذا يحاربون العروبة؟

يجدر بنا أن نعلم يقينا أن من يحاربون العُروبة ويعملون بكل جد وعزم لتشويهها ونبذها، بل والقضاء عليها إن أمكنهم هذا، لا يفعلون هذا بغضاً للهوية العربية وخوفاً منها في حد ذاتها فقط، لكن لمآرب أخرى خبيثة وخفيّة تستهدف ما هو أبعد من العروبة وأشمل، وفيما يلي أهدافهم من الحرب عليها:

1- استهداف الإسلام بضرب قلبه العربي:

كما ذكرنا، العروبة قلب الإسلام، وحاضنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومهد دعوته، وأبناء العروبة هم من حملوا مشعل الإسلام ودعوته منطلقين بها إلى آفاق الدنيا، من هذا المنطلق، فإن تشويه الهُوية العربية، والتنفير منها، مدخل مناسب لكل من يسعى لتشويه الإسلام والقضاء عليه، وإضعاف اللغة العربية وصولاً إلى هجرها ونبذها، وفقاً لمخططاتهم، إضعافٌ للسان الإسلام ووعاء علومه، وانسلاخ الشعوب التي عرّبها الإسلام من جسد العروبة وهجرهم لسانها، بلا شك يضعف الروابط المعرفية والروحية التي تصل بينهم وبين أسلافهم، بتراثهم الروحي، وجهادهم الرباني، وإسهاماتهم العلمية والفكرية، المتمثلة في تأسيس علوم القرآن الكريم والسُّنة النبوية المطهرة.. الخ، وهذا هو الهدف الأول والرئيس.

2- ضرب العروبة لذاتها بوصفها إطاراً جامعاً موحِّداً:

ثمة غرض خبيث آخر خلف حربهم المستعرة على العروبة، يتمثل في الإجهاز عليها باعتبارها إطاراً جامعاً في نفسها يمكن أن تتوحد الشعوب العربية في دائرته يوماً ما، فهم يعلمون جيداً أن العروبة في حد ذاتها تمثل المظلة المشتركة الثانية لهذه الشعوب بعد الإسلام، من حيث القدرة على تجميعهم وتوحيدهم.

فالعروبة وإن كانت أقل تأثيراً وأضعف قدرة على تأليف القلوب وتجميع الصفوف من الإسلام بطبيعة الحال، من حيث إن الإسلام عقيدة دينية راسخة في النفوس تربط معتنقيها بخالقهم، ومن حيث إن مظلة الإسلام أوسع لأنها تشمل جميع المسلمين في شتى بقاع الأرض، إلا أن العروبة، مع هذا، تمثل هاجساً حقيقياً لأعداء شعوبنا وبلادنا، بركائزها التي تشكّل روابط مشتركة ومتينة بين أبنائها؛ اللغة، والثقافة، والتاريخ، والتراث الهائل المشترك، بالإضافة إلى جغرافية متصلة، وشعور عام مشترك بوحدة المصير.

هذا يعني أن أعداء العروبة يخشونها مرتين؛ مرة لأنها قلب العالم الإسلامي؛ ما يعني أن عزّها من عزه وقوتها من قوته، وأن نهضة العرب واتحادهم انطلاقاً مما يمليه عليهم دينهم، يمثل أقرب الطرق وأيسرها لوحدة المسلمين جميعاً في مشارق الأرض ومغاربها.

ويخشونها مرة أخرى لذاتها؛ لأن وحدة العرب تمثل حدثاً مرعباً لهم، حتى وإن كانت تحت مظلة العروبة وحدها؛ أي أنهم يريدوننا متفرقين من مختلف الأركان وبجميع المعاني والأشكال، مجرّدين من أي نوع من أنواع الاتحاد، بعيدين عن أي مظلة جامعة دينية كانت أو قومية، حتى وإن كانت خاملة، مع التأكيد على أن خطر الاتحاد تحت مظلة الإسلام الأكبر والأسوأ بالنسبة لهم.

ثانياً: الإستراتيجيات والوسائل:

بعد أن تفرقت الأقطار الإسلامية كنتيجة لتداعي الدولة العثمانية وانفراط عقدها، بدأ الغرب في تنفيذ مخططاته التي ترمي إلى إبقاء المسلمين في حالة من التشرذم والتفرق الدائمين، وكان للمنطقة العربية النصيب الأكبر من جهود الغرب الماكرة الخبيثة في هذا السياق.

إن المتتبع لمسلك الغرب في تمزيق العالم العربي يكتشف أنهم خططوا لتنفيذ الأمر على مرحلتين؛ مرحلة التقسيم، ومرحلة التفتيت.

بالإضافة إلى أنهم خططوا لأن تمضي عملية التمزيق بمرحلتيها في مسارين متوازيين؛ مسار التمزيق الجغرافي، أي العضوي أو المادي، ومسار القضاء على العروبة بوصفها الهوية الجامعة لشعوب المنطقة، أي التمزيق النفسي والمعنوي أو تمزيق الانتماء.

أ- مرحلة التقسيم بمساريها العضوي والمعنوي:

أهم إستراتيجيات الغرب في ضرب العروبة تمثلت، ولم تزل، في تقسيم العالم العربي الذي كان موحداً مع جميع البلاد المسلمة في ظل دولة الخلافة العثمانية إلى أقطار متعددة، في شكل كيانات سياسية متباينة ومتمايزة ومستقلة عن بعضها البعض، عبر وضع حدود جغرافية مفتعلة بين أجزائه وبلدانه، وهو ما دشّنته اتفاقية «سايكس بيكو» التي نتج عن تطبيق بنودها ما عُرف منذ ذاك الحين بـ«الدول العربية»، وهو مصطلح لم يكن له وجود سابق، بحكم أن الواقع كان مغايراً تماماً.

منذ ذلك الحين أصبحت كل دولة منغلقة داخل حدودها، منكفئة على ذاتها، وتمتلك موارد خاصة بها، ولها نظامها السياسي والاقتصادي، ولها أيضاً جيشها وأهدافها وطموحاتها ومشكلاتها؛ أي أنه قد أصبح لكل دولة وضعها الخاص ومسارها المستقل.

هذا عن التقسيم الجغرافي، أما عن مسار التقسيم الموازي، أو المعنوي أو تمزيق الانتماء، فيتمثل في إزاحة العروبة والقومية العربية من صدارة المشهد في بلاد المنطقة التي عرّبها الإسلام، لصالح هُويات «وطنية» محلية متعددة وضيقة، بحيث تستبدل كل دولة بالهُوية العربية هويتها المحلية التاريخية القديمة؛ أي أن هذا المسار مرتبط أيضاً بقرينه الجغرافي.

إذ إنه بعد أن قام الغرب الماكر في بادئ الأمر بالترويج لمفهوم «القومية العربية» كإطار للوحدة، حتى يحلّ بديلاً عن الإطار الإسلامي الجامع، أو على الأقل يتقدمه وينتزع منه موقع الصدارة في الأفئدة قبل الواقع، وبعد أن حقق الغرب مآربه من هذه الخطوة وأخذ مفهوم «الأمة العربية» يزاحم مفهوم «الأمة الإسلامية» بقوة إلى حد بعيد، عمل الغرب وأذنابه من بني جلدتنا على تقويض الهُوية العربية ذاتها، عبر إحياء النعرات المحلية القُطْرية، واستدعاء الجذور التاريخية القديمة لكل واحد من شعوب هذه البلاد التي عرّبها الإسلام، ووضْعها في الصدارة، بما يستلزمه هذا من إعادة صياغة الوعي والوجدان وتنشيط الذاكرة المحلية والعودة بها إلى أزمنة سحيقة، للبحث عن جذور ذبُلت منذ آماد بعيدة، فضلاً عن أن الإسلام كان قد جَبَّها جميعاً.

وقد كان للغرب ما أراد إلى حد بعيد، فبعد أن كنا نتحدث عن هُوية عربية جامعة، بتنا نتحدث بدرجة كبيرة عن عدد من الهُويات يساوي عدد الكيانات التي قُسّم إليها العالم العربي، فمن هُوية عراقية تمثل امتداداً للبابلية والآشورية، إلى هوية مصرية بجذورها الفرعونية، إلى هُوية سورية فينيقية.. إلخ، ولا يعني هذا أن العروبة أو القومية العربية قد انمحت وانطمست آثارها تماماً، إلا أنها تراجعت إلى الخلف كثيراً، وأصبح وجودها شكلاً أكثر منه واقعاً واسماً أكبر منه رسماً، وانزوت إلى ركن خلفي هامشي في وجدان هذه الشعوب ومخيلتها وعقلها الجمعي، تحت وطأة الضربات «الهُوياتية» المحلية الشديدة والمتعددة.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

جميع الأعداد

ملفات خاصة

مدونة