أسس المنهج التربوي للنبي ﷺ

د. عادل هندي

14 مايو 2025

215

أولاً: الأسس الإيمانية والتعبدية:

الأول: الاهتمام بعقيدة الطفل وتنمية وازع الإيمان لديه:

لقد كان من أهم أسس تربيته صلى الله عليه وسلم للأولاد الاهتمام بتأسيس نفسية الأبناء على عقيدة سليمة وصحيحة؛ وذلك ببثّ اليقين في الله تعالى، وزرع الإيمان في نفس الطفل؛ فلا يُمكن لفاقد العقيدة السليمة من أبنائنا أن يثبت أمام المِحن والشدائد.

وفي ظلّ كثرة المشوشات الحياتية التي تعرض لأبنائنا نجد الكثير من التساؤلات الوجودية المُحيّرة، التي تحتاج إلى إجاباتٍ مقنعة، ولن يثبت الأبناء أمام الشبهات إلا بسلاح العقيدة النقيّة القويّة، ولذا كان اهتمام النبيّ صلى الله عليه وسلم، بتنشئة الجيل الأول على تلك العقيدة الثابتة؛ وقد ثبت هذا من شهادة أحد الفتيان، وهو جُندب بن عبدالله(1) من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقول: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ فِتْيَانٌ حَزَاوِرَةٌ(2)، فَتَعَلَّمْنَا الْإِيمَانَ قَبْلَ أَنْ نَتَعَلَّمَ الْقُرْآنَ، ثُمَّ تَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ، فَازْدَدْنَا بِهِ إِيمَانًا(3)، فكانت التربية بالعقيدة والإيمان هي بداية طريق التربية النبوية للأولاد، وكان من كمال التربية الإيمانية: الاهتمام بحفظ القرآن الكريم وتعليمه كما شهِد سيدنا جُندب.

وكان حرصه صلى الله عليه وسلم يشتدّ في تعليم الصبيان الإيمان والعقيدة؛ ليُخرج منهم جيلا يوقن بربه ولا يهتز إيمانه مع مشكلات الحياة وأزماتها؛ ففي الحديث أن ابن عباس قال: كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا، فَقَالَ: «يَا غُلامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ، احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشـَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَـيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ»(4)

وفي هذا الموقف من الفوائد التربوية الكثير، منها:

1- حكمة المربي في استثمار الفرصة للتعليم والهداية وإرشاد الأبناء إلى العقيدة السليمة، وذلك في الوقت المناسب والملائم لنفسية وعقلية الأطفال.

2- اسْتخدام كلمات تعبر عن المحبة عند تقديم النصيحة، كقول: «يا بني»، وفي الحديث: «يا غلام»، وفي ذلك إظهار للشفقة والمحبة.

3- ربط مواقف الحياة بالعقيدة؛ بحيث لا ينفصل الأبناء عن وازع المراقبة لربهم في مواقف الحياة المختلفة؛ سيّما ونحن نرى في واقع مجتمعاتنا حجم الانحراف السلوكي والأخلاقي في حياة الأبناء بعيدًا عن رقابة الآباء والأمهات، مما يلزم معه تكثيف الدروس العقدية.

وهذا غلامٌ آخر من غلمان عصـر الرسول صلى الله عليه وسلم يحدّث عن تربيته الإيمانية لهم وأنها كانت مقَدّمة على غيرها من أنواع التربية، إنه عبدالله بن عمر يحكي فيقول: «لَقَدْ لَبِثْنَا بُرْهَةً مِنْ دَهْرٍ، وَأَحَدُنَا لَيُؤْتَى الإِيمَانَ قَبْلَ الْقُرْآنِ تَنْزِلُ السُّورَةُ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَنَتَعَلَّمُ حَلالَهَا وَحَرَامَهَا، وَأَمْرَهَا وَزَاجِرَهَا، وَمَا يَنْبَغِي أَنْ يُوقَفَ عِنْدَهُ مِنْهَا كَمَا يَتَعَلَّمُ أَحَدُكُمُ السُّورَةَ، وَلَقَدْ رَأَيْتُ رِجَالا يُؤْتَى أَحَدُهُمُ الْقُرْآنَ قَبْلَ الإِيمَانِ يَقْرَأُ مَا بَيْنَ فَاتِحَتِهِ إِلَى خَاتِمَتِهِ، مَا يَعْرِفُ حَلالَهُ وَلا حَرَامَهُ، وَلا أَمْرَهُ وَلا زَاجِرَهُ، وَلا مَا يَنْبَغِي أَنْ يُوقَفَ عِنْدَهُ مِنْهُ وَيَنْثُرُهُ نَثْرَ الدَّقَلِ(5)»(6). أضف إلى ذلك حرص النبيّ الكريم على تعويد الأبناء السلوك الحسن، إمّا بالتربية الفردية أو الجماعية. 

 

صفات المربين من خلال التربية النبوية للأولاد (2)‏ |  Mugtama
صفات المربين من خلال التربية النبوية للأولاد (2)‏ | Mugtama
الأسس التربوية التي وضعها النبي صلى الله عليه وسلّم ‏كمنهاج تربوي نظري وعمليّ
mugtama.com
×


ومن آثار تلك التربية الإيمانية والعقدية للأولاد، ما يأتي:

1- «تعمل التربية الإيمانية على تثبيت العقيدة الدينية عند الأطفال وتربية الضمير والوازع الديني، ويستمد الطفل من التربية الإيمانية مقومات سلوكه الفاضل ويتعلّم كيف يمارس شعائر الدين ممارسة فعليّة»(7).

2- اتزان النفس وضبط القلق النفسـي الطارئ: فالإيمان حين يملأ قلب الأبناء يجعلهم مطمئنين، مستقرين نفسيًّا، ويجعلهم عند الهموم أكثر يقينا في ربهم، فلا يشـردون نحو هاوية الفكر أو السلوك.

3- ضبط الدوافع النفسية المختلفة: فكلما كان الأبناء أقوى إيمانًا كانوا أقوى نفسيًّا، وأتقى لله تعالى، قال تعالى: (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (الأعراف: 201)، فالمؤمن الحقيقي يستطيع أن يضبط دوافعه وانفعالاته.

4- ثبات الأبناء على مبادئ الفكر والسلوك: فلا شكَّ أن طبيعة الحياة مليئة بالأمور الصعبة، تحتاج من نفس صاحب العقيدة الثبات على المبدأ، والذي يتمّ تربيته على العقيدة الصحيحة سيثبت بإذن الله على مبادئ الصدق والعدالة والمحبة.

5- تحقيق التعايش السلميّ مع مَن حوله: فالمتربّي على العقيدة السليمة سيُراعي أمر ربه في أخوته لغيره من المؤمنين، وتعايشه السلمي مع غير المسلمين.

ولا ننسى أيها المصلحون أدب الدعاء بالهداية للأبناء والبنات، وهو أساس إيماني تعبدي رائع، فلقد كان من أساسيات التربية النبوية الإكثار من الدعاء للأولاد لا الدعاء عليهم؛ فقد نهى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الدعاء عليهم، فقال: «لا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَلا تَدْعُوا عَلَى أَوْلادِكُمْ، وَلا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ، لا تُوَافِقُوا مِنَ اللهِ سَاعَةً يُسْأَلُ فِيهَا عَطَاءٌ، فَيَسْتَجِيبُ لَكُمْ»(8)، وفي الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ يُسْتَجَابُ لَهُنَّ، لَا شَكَّ فِيهِنَّ: دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ، وَدَعْوَةُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ»(9).

فبعض الآباء والأمهات يدعون على أبنائهم بالهدم والخيبة والخسارة والدمار والفشل، ثم يأتون فيشكون من عقوق الأبناء. وقد جاء رجل إلى عبدالله بن المبارك فشكا إليه عقوق بعض ولده. فقال: هل دعوت عليه؟ قال: نعم. قال أنت أفسدته(10)؛ ولذا فإنَّ الدعاء بالخير للأولاد فيه لجوء إلى الله واستعانة به، كما أن في الدعاء دليلا على أنّ القلوب بيد الله تعالى، وأن قلوب الأبناء قد تتغير بالدعاء لهم.

 


الرسول ﷺ.. والتربية الوالدية (3) |  Mugtama
الرسول ﷺ.. والتربية الوالدية (3) | Mugtama
أدبيات المنهج النبوي في التربية الناجحة، وكان من بين ذلك: الأخذ بالأسباب عند الزواج ابتداء، ثم الأبوة الحانية
mugtama.com
×


ومن نماذج دعائه صلى الله عليه وسلم للأولاد ما يأتي:

1- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ضَمَّنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: «اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الكِتَابَ»(11).

2- عن البَرَاء، قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَالحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ عَلَى عَاتِقِهِ، يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُ فَأَحِبَّهُ»(12).

3- عَنْ أَنَسٍ، دَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، عَلَى أُمِّ سُلَيْمٍ، فَأَتَتْهُ بِتَمْرٍ وَسَمْنٍ، قَالَ: «أَعِيدُوا سَمْنَكُمْ فِي سِقَائِهِ، وَتَمْرَكُمْ فِي وِعَائِهِ، فَإِنِّي صَائِمٌ» ثُمَّ قَامَ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنَ البَيْتِ، فَصَلَّى غَيْرَ المَكْتُوبَةِ، فَدَعَا لِأُمِّ سُلَيْمٍ وَأَهْلِ بَيْتِهَا، فَقَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِي خُوَيْصةً، قَالَ: «مَا هِيَ؟»، قَالَتْ: خَادِمُكَ أَنَسٌ، فَمَا تَرَكَ خَيْرَ آخِرَةٍ وَلاَ دُنْيَا إِلا دَعَا لِي بِهِ، قَالَ: «اللَّهُمَّ ارْزُقْهُ مَالا وَوَلَدًا، وَبَارِكْ لَهُ فِيهِ»، فَإِنِّي لَمِنْ أَكْثَرِ الأَنْصَارِ مَالا، وَحَدَّثَتْنِي ابْنَتِي أُمَيْنَةُ: أَنَّهُ دُفِنَ لِصُلْبِي مَقْدَمَ حَجَّاجٍ البَصْـرَةَ بِضْعٌ وَعِشْـرُونَ وَمِائَةٌ(13).

فلو أنَّ الآباء اختصّوا أبناءهم وبناتهم بدعوات صالحات في سجودهم بين يدي ربهم سبحانه لكان خيرًا لهم ولأبنائهم، وبدلا من كلمات الدعاء بالهدم والخسارة، تكون كلمات الدعاء الذي يبني ويطلب الرشاد والهُدى للأولاد؛ أملا في هداية الولد وطلبًا من الله تعالى وطمعًا فيما لدى المولى من كرامات وعطاءات.

 




______________________

(1) هو: الإمام، أبو عبدالله البجلي، العلقي، صاحب النبي ، نزل الكوفة والبصرة، وله: عدة أحاديث، روى عنه: الحسن، وابن سيرين، وأبو عمران الجوني، وأنس بن سيرين، وعبدالملك بن عمير، والأسود بن قيس، وسلمة بن كهيل، وأبو السوار العدوي، وآخرون. وعاش جندب البجلي، وبقي إلى حدود سنة سبعين. (ينظر: سير أعلام النبلاء: ج3، ص174، 175).

(2) يقول ابن الأثير في النهاية: هُوَ: جَمْع حَزْوَرٍ وحَزَوَّرٍ، وَهُوَ الَّذِي قَارَبَ الْبُلُوغَ، وَالتَّاءُ لِتأنيث الْجَمْعِ. (النهاية في غريب الحديث والأثر: ج1، ص380).

(3) سنن ابن ماجه: أبواب السنة، باب في الإيمان (61)، وقال شعيب الأرنؤوط: حديث صحيح.

(4) سنن الترمذي: أَبْوَابُ صِفَةِ الْقِيَامَةِ وَالرَّقَائِقِ وَالْوَرَعِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (2516)، وقال عنه الشيخ أحمد شاكر: حديث صحيح.

(5) الدّقل هو: رديء التَّمر ويابِسُه، وَمَا ليْس لَهُ اسْم خاصٌّ فَتراه ليُبْسِهِ ورَدَاءته لا يجْتَمِع وَيَكُونُ مَنْثُوراً. (ينظر: النهاية في غريب الحديث والأثر: ج2، ص127).

(6) أخرجه الحاكم في المستدرك: كتاب الإيمان، أَمَا حَدِيثُ مَعْمَرٍ (101). وقال عنه الحاكم: «هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ» (المستدرك على الصحيحين: أبو عبدالله الحاكم محمد بن عبدالله بن محمد بن حمدويه بن نُعيم بن الحكم الضبي الطهماني النيسابوري المعروف بابن البيع (ت 405هـ)، تحقيق: مصطفى عبدالقادر عطا، ط1/ 1411هـ/ 1990م، دار الكتب العلمية- بيروت).

(7) فلسفة التربية الإسلامية في الحديث الشريف: عبدالجواد سيد بكر، ص212 وما بعدها، ط. دار الفكر العربي- القاهرة: 1980م.

(8) صحيح مسلم: كتاب الزّهد والرقائق، بَابُ حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ وَقِصَّةِ أَبِي الْيَسَرِ (3009).

(9) سنن ابن ماجه: أَبْوَابُ الدُّعَاءِ، بَابُ دَعْوَةِ الْوَالِدِ وَدَعْوَةِ الْمَظْلُومِ (3862)، وقال شعيب الأرنؤوط في التحقيق: (حسن لغيره).

(10) إحياء علوم الدين: ج2، ص217.

(11) صحيح البخاري: كتاب العلم، بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الكِتَابَ» (75).

(12) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، بَابُ مَنَاقِبِ الحَسَنِ وَالحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، ح(3749). 

(13) صحيح البخاري: كتاب الصوم، بَابُ مَنْ زَارَ قَوْمًا فَلَمْ يُفْطِرْ عِنْدَهُمْ (1982).


تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة