العنوان الملتقى التربوي: العدد 521
الكاتب جاسم المسلم
تاريخ النشر الثلاثاء 24-مارس-1981
مشاهدات 18
نشر في العدد 521
نشر في الصفحة 42
الثلاثاء 24-مارس-1981
بين سليمان والهدهد
مواقف جديرة بالتأمل والتفكر والتدبر نتعرف عليها من آيات قصة سليمان عليه السلام والهدهد في سورة النمل ما أحوجنا إلى استلال العبر والدروس منها لتنفعنا في سيرنا التربوي مع إخواننا.
ها هو سليمان النبي الحكيم يتفقد الطير فلا يجد الهدهد ﴿وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ﴾ (النمل: 20) سمة بارزة نلمحها في هذه الآية سمة اليقظة والدقة في القائد فهو لم يغفل عن غيبة جندي من بين هذا الحشد الضخم من الجن والإنس والطير ومن بين أمة الهداهد الكثيرة من أمثاله؛ فلنقتد بسليمان بتفقدنا لإخواننا حينما يغيب أحدهم أو يمرض أو يسافر ونسأل عنه، وقد كان هذا هدي النبي صلى الله عليه وسلم في تفقد أصحابه، وجعل التفقد علينا حقًّا واجبًا من جملة حقوق المسلم «وأن تتفقده إذا غاب».
أليس من العيب أن يسافر المسافر ويمرض الأخ أو تحدث له مشكلة من مشاكل الحياة المعقدة وينقطع فترة عن النشاط ولا تسأل عنه بل لا تدري عن ذلك كله.
ولفتة أخرى في هذه الآية حيث يتضح أن الهدهد غائب ويعلم الجميع من سؤال القائد عنه أنه غائب بغير إذن، وحينئذ يتعين أن يؤخذ الأمر بالحزم كي لا تكون المسألة فوضى؛ فالأمر خطير إذن، وإذا لم يؤخذ بالحزم كان سابقة سيئة لبقية الجند، ومن ثم نجد سليمان القائد الحازم يتهدد الجندي المتخلف بغير عذر ﴿لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ﴾ (النمل: 21).
ولكن سليمان ليس بجبار في الأرض إنما هو نبي رؤوف رحيم بجنده فلا ينبغي أن يقضي في شأنه قضاء نهائيًّا أو يؤنبه قبل أن يسمع منه عذره.. ومن ثم تبرز سمة القائد العادل ﴿أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ﴾ أي حجة قوية توضح عذره وتنفي المؤاخذة والمحاسبة عنه..
ويحضر الهدهد ومعه نبأ عظيم ومفاجأة ضخمة، فمكث غير بعيد تأدبًا وهيبة من هذا القائد الحازم القوي، إنه يعرف حزم قائده وشدته؛ لذلك جعل يفكر ببداية فيها مفاجأة تطغى على موضوع غيبته وتضمن إصغاء القائد له ﴿فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ﴾ (النمل: 22). فأي قائد لا يستمع لأحد جنده وتلاميذه يقول له ﴿أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ﴾ فكم بين الهدهد ونبي الله سليمان من العلم وهو يقول له هذا القول؟ وليس أحد منا بأعلم من سليمان والفرد الذي معك ليس بأجهل من الهدهد؛ فخذ من ذلك سمة التواضع، وليأخذ فردك الذي معك أدب نقل الأخبار من هذا الهدهد الصغير الضعيف؛ فهو قد جاء بنبأ يقين ثبت لا مجال فيه للوهم والظن، بل ومستوعب لكل هذا النبأ وتفصيلاته بالإضافة إلى النباهة والذكاء والإيمان والبراعة في عرض النبأ العظيم.
حقًّا لقد استطاع الجندي أن يلفت انتباه القائد ويثير اهتمامه بموضوع خطير، ولكن هل تهافت القائد على الخبر وتسرع بتصديقه؟ كلا فالقائد هنا قدوة لا تسرع في تصدیق أمر أو تكذيبه دون روية وتحقق، ولا يستخفه النبأ العظيم الذي جاء به الجندي.
إنما يأخذ في اختباره للتأكد من صحته. شأن القائد الحازم ﴿ قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾ (النمل: 27) فيا الله ما أبلغها من توجيهات وما أصدقها من مواقف، أشد ما يحتاج إليها المربون اليوم ليعرفوا حسن التصرف في مثل هذه المواقف ويتعلموا من مدرسة سليمان عليه السلام والهدهد سمات الدقة واليقظة والمرونة والحزم وسمات التأني والعدل.
قوة البنيان
الجبهة الداخلية القوية الراسخة التي ترتكز عليها رئاسة المركز وتكون من القوة والصلابة بحيث تساعدها على الخوض والوصول إلى أهدافها.
وكل أخ يعلم أن قوة الأساس في أي بنيان يتناسب طرديًّا مع الثقل الذي سيقام عليه، ولما كان حمل الدعوة الإسلامية هو أثقل ما يمكن أن يحمله الإنسان فلا بد أن يكون حملة الدعوة من القوة والصلابة ما يجعلهم أهلًا لحمل هذه الدعوة العظيمة.
وإذا تخللت هذا الأساس بعض الفجوات والثغرات فلا بد حينئذ من العمل بسرعة على سدها وإحكامها قبل الخروج إلى المجتمع. أما إذا خرجنا وفي القاعدة شيء من التخلخل والضعف فسرعان ما يظهر العيب ويتخلخل البناء وتمتد الأيدي لإزالته.
ونحن نعلم أيها الأخ المؤمن أن القاعدة الإسلامية المتينة لا تقوم إلا ببذل كل ما هو غال ونفيس، وأن يجعل الأخ من نفسه حاميًا للدعوة يسارع لمكافحة كل كلمة تخرج من أي فم تعمل على إحداث القلق في الجبهة الداخلية.
لقد قال أحد جنود خالد بن الوليد عند فتح الشام: ما أكثر المشركين وأقل المسلمين! فغضب خالد لأنه يعلم أن مثل هذا الكلام يفت في عضد الجند ويخذلهم. ولذلك صاح قائلا: «إنما تكثر الجنود بالنصر وتقل بالخذلان لا بعدد الرجال». كن هكذا يا أخي.. حارسًا لدعوة نبيك صلى الله عليه وسلم، ترد عنها كيد الكائدين وسهام المبطلين، والله يرعاك ويوفقك وينصرك.
من فقه اجتماعات العمل
موقف من المواقف الحرجة على المسلمين يتكرر على مدار التاريخ، إنه الاجتماع في وقت الشدة لاتخاذ قرار معين يترتب عليه العمل.. إنه اجتماع عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقادة المسلمين وعامتهم في المدينة قبل معركة نهاوند عندما أتاه الخبر بأن المجوس قد أعدوا جميع إمكانياتهم لإيقاف المد الإسلامي؛ فالموقف حرج ومصيري ويحتاج إلى مشورة، وسرعة، وحزم وعزم؛ لهذه الأسباب وجّه عمر رضي الله عنه خطابه بهذه الصيغة:
«هذا يوم كائن له ما بعده من الأيام، ألا وإني هممت بأمر وإني عارضه عليكم فاسمعوه ثم أخبروني وأوجزوا، ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم، ولا تكثروا ولا تطيلوا فتتشعب بكم الأمور - أي فتتشعب بكم المسالك - ويلتوي عليكم الرأي».
ففي هذه الكلمات الفقه كله، لكيفية سیر اجتماعات العمل -لا اجتماعات اللغو والهزل والفلسفة والجدل-.. فالاجتماعات دائمًا بين قائد وجنود.. فما واجب الجنود في هذه الاجتماعات؟:
1- الاستماع: فالإنصات الجيد والوعي التام والملاحظة الدقيقة، ومعرفة مبتغيات المتكلم، وفهم مبررات الكلام والنظر لما بين السطور وفي حواشي العبارات.. كل هذا من متطلبات الاستماع.. ثم بعد.
2- الإخبار حيث إن كتم الرأي ككتم العلم، والبخل في المشورة من أعظم أنواع البخل.. كما أن الساكت عن الحق شيطان أخرس.. وهذه الإخبار يراعى فيها:
(أ) الإيجاز: على ألّا يكون مخلًا، لأن الوقت حرج، والأعمال أكثر من الأوقات، والحاجة للعمل أكثر من الحاجة للقول، وفي الإيجاز نستطيع أن نسابق الزمن فننجز الأعمال الكثيرة بالوقت القليل، وهذا هو الإنتاج الصحيح الذي يباركه الله سبحانه ويربيه، إنتاج كثير في وقت قليل.
(ب) عدم التنازع: لأن من شروط السلامة في الرأي انطلاقه من جو تسوده السكينة ويحفه الأمن، وتعلوه راية الأخوة والمودة، وخلاف ذلك جو التنازع والتشاحن والانفعال وإعجاب كل ذي رأي برأيه، لا يزحزحه عنه حتى يقينه الكامل أن ما جاء به رأي، لا نصٌ من كتاب أو سنة. ومن هنا يأتي توجيه المولى جل وعلا للمؤمنين بتجنب جو التنازع بقوله: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ وَاصْبِرُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ (الأنفال: 46).
(ج) عدم الإكثار والإطالة: وذلك لأن الكلام الكثير المعاد حول قضية ما يستلزم التفريعات الكثيرة وكثرة الآراء.. فتكون النتيجة الطبيعية من توسع الأمور التواء الرأي.. هذا إخواني من فقه اجتماعات العمل فدرّب عليه نفسك ورب إخوانك عليه.