; هموم مسلمة .. وحملت رمضان معي | مجلة المجتمع

العنوان هموم مسلمة .. وحملت رمضان معي

الكاتب نوال السباعي

تاريخ النشر الثلاثاء 22-ديسمبر-1998

مشاهدات 13

نشر في العدد 1331

نشر في الصفحة 58

الثلاثاء 22-ديسمبر-1998

لرمضان في الغربة وجه آخر لا تعرفه بلادنا، فهو حياتنا بعد موات أحد عشر شهرًا طوال العام

ما فتئت أمي خلال عشرين عامًا، تدعو الله أن يعيدنا إلى بلادنا، وأن يُقرب دار غربتنا، ولكن لأمر علمه الله، وبقدرة قادر، أصبحنا في بلاد «الواق الواق»، أو هكذا ظننتها!!، وليس ذلك فحسب، بل في أبعد جزيرة معروفة من قبل البشر لدى الجانب الشرقي من المحيط الأطلسي!.

وأصابنا من الكمد والنكد ما الله به عليم؛ بسبب هذا الانتقال المؤقت على الرغم من ذهابنا وإيابنا المستمرين بين «مدريد»، و«بالماء»- وهو اسم الجزيرة التي حللنا فيها- وبشكل يصيب بالدوار؛ إذ لا وسيلة للتنقل بينهما إلا الطائرة، أو السباحة!!، أو الباخرة لمن كان لديه وقت طويل ليضيعه، ومعدة تطيق تقلبات الأمواج، وشدة أهوال البحر!.

الأمر الذي أصابنا بالقلق العميق، وأقض مضاجعنا، كان اضطرار أولادنا للعودة إلى المدرسة الإسبانية بعد أن وجدوا الأمن والإفادة في المدرسة العربية السعودية في مدريد، ولكن حسرتنا كانت أعمق وأعظم، على ضياع فرصة العيش في ظل رمضان هذا العام مع أهل مدريد في مساجد مدريد فرمضان في مدريد، قطعة من أوطاننا زرعت في مساجدها الخمسة الرئيسة، وروح وريحان وجنة، تهفو إليها نفوسنا كلما تقاطرت الهواتف من كل حدب وصوب تثبت لنا دخول الشهر، وتبارك لنا بحلوله.

فرمضان.. هو حياتنا بعد موات أحد عشر شهرًا في غربة وكربة نعاني فيها الحياة وتعانينا، وهو الأمل بعد أن يكاد اليأس أن يقطع حبائل الصبر في نفوسنا، وهو النور في ظلمات البعد والنأي والنسيان والعصيان.

لا أبالغ.. إن قلت ربما كُنا آخر بيت من المسلمين- من جيلنا في مدريد- ممن أدخلوا «الصحن المستقبل للقنوات الفضائية» إلى حياته، فلقد بالغ الناس في نقد الفضائيات، فاستعظمنا أمرها، وخفنا تأثيرها البالغ على توجيه أولادنا، وأخلاقهم، حتى زارتنا أمي العام الماضي، وساءها ألا تسمع صوت مؤذن عبر الفضائيات في بيتنا، وقالت: هل تضيعون الخير العميم من أجل حفنة من الفلتانين، ومن يعرف- كما قالت- ضبط أزرار «الموجه عن بعد»، لا يضره انحراف المنحرفين!!، وأرغمتنا- إقناعًا- على تركيب «الصحن»، رأفة بالأولاد!!، وكانت هذه هي المرة الثانية في حياتي التي ترغمني فيها أمي على أمر فيه من الخير ما لم يعلمه إلا الله.

وهكذا عشنا رمضان بطعم آخر، ولون آخر؛ إذ أفطرنا في صلاة العشاء والتراويح من مكة المكرمة، وأبكانا إمام حرمها كل عشية بدعائه وابتهاله وقراءه العجيبة، التي لها فعل السحر في النفوس والقلوب، ولم نحضر لسوء حظنا غير موعظة واحدة في آخر يوم من رمضان لشيخ كويتي يدعى «محمد العوضي»، أخذ بالباب الأولاد في حديثه ذاك السمح اللطيف، ونكاته البعيدة عن الوقار الجاف، الذي يصرف عادة الصغار، عن متابعة الأحاديث الدينية!.

ولطف «تلفاز الكويت» ببرنامجه الممتع المبهج «فضائيات» أمسياتنا؛ حيث أدخل السرور على نفوسنا بذلك التقليد اللطيف لأبرز برامج الفضائيات، التي ما كنا في حينه قد سمعنا بها ولا رأيناها، وأفادنا وأسعدنا «تلفاز أبو ظبي» ببرنامجه «خيرها في غيرها»، والذي فيه من المتعة والفائدة ضعف ما جاء فيه من انتهاك الحقوق الحيوانات واستدعاء لدموع بعض الأطفال!!

وأما شيخنا القرضاوي، فقد أتحفنا أينما نزل وحل، بالعلم والوعي، والأمل، والعمل، والبذل، والعطاء، والحركة إلى الأمام دون حدود، إلا إطار الفقه، وبوتقة الاجتهاد.

هكذا قضينا أول رمضان لنا عشناه مع الأمة جمعاء من خلال «الفضائيات» التي صارت كغيرها من وسائل التقنية في هذا العصر، سلاح ذو حدين، إما أن يدمر ويهدم، إذا أساء مقتنوه استعماله، وإما أن يساعد على البناء إذا أحسنوا الإفادة منه، ولذلك فلقد كان أول ما فطناه يوم اضطررنا لمغادرة مدريد خلال فترة من الوقت، أن نادينا عامل «الصحون المستقبلة للفضائيات»؛ ليفك لنا صحتنا- على أحسن وجوه التسمية باللغة العربية- لتحمله معنا إلى «بالماء»؛ حيث أكد لنا من سبقنا إليها، أن تركيب «الصحون المنصوبة» فيها قد يتأخر أكثر من ثلاثة أشهر منذ تاريخ طلبها، «فبالماء» هذه ليست إلا قرية أفريقية- أطلسية، اكتشفتها إسبانيا، فأبادت أهلها، ورفعت فوقها العلم الإسباني، ومن ثم جعلتها قرية أوروبية للاستجمام، وإن كان في وضعنا نحن استجمامًا إجباريًّا!!.

وحملنا الصحن بعد فكه إلى أكثر من ثلاثين قطعة، وبعد لفه بأوراق الصحف صعدنا به الطائرة، مما أوقف التنفس لدى طاقمها وركابها، فلا يجتمع في عقولهم - عرب وأشياء غريبة معدنية- إلا أن تكون أسلحة، فطمأنا القوم وهدأنا من روعهم!!، فأني لمثلهم أن يفهموا أن هذا «رمضان» قد حملناه معنا، ما فيه قنبلة ولا مدفع!.

ولما وصلنا «بالماء» ركبنا الصحن، وجلسنا على أحر من الجمر ننتظر رمضان؛ حيث لا مساجد في هذه البلد، ولا مسلمين، اللهم إلا ثلاثة أو أربعة، قد ضيع بعضهم نفسه، وآخر دينه، وثالث مروءته!!.

جلسنا ننتظر رمضان كما ينتظر المؤرق في ليلة شتاء مظلمة بزوغ الفجر الذي يتنفس بعطر الياسمين، وكما يأتي الصبح بعد العتمة، والمطر بعد أعوام من التصحر.

ها هو رمضان على أبواب غربتنا ويتمنا، يأتي كمن جاءت عشيرته كلها للقائه بعد مائة عام من الحرمان.

هذا هو رمضان الذي يعود إلينا عامًا بعد عام بضيائه، وكرمه ليشدنا إلى هذه الأمة التي خلفتنا على أعتاب آلامها، غرباء.. تتشقق جلودنا غربة، وتنزف قلوبنا غربة!.

هكذا يأتينا كل عام بعد هم وغم، ومعالجة للكفر، والانحراف، والضلال، التي تترك مع الأيام جراحًا عميقة لا يكاد يشفيها إلا تفتح براعم الإيمان من أبناء الجيل الثاني، الذين يتهافتون إلى المساجد قبل آبائهم، وتهوى قلوبهم إلى صلوات التراويح، وقرآن الفجر، كما تأوى عصافير الجنة إلى القناديل المعلقة في ظل العرش، إنه جيل أنشأه الله، وحماه، ورعاه، ونبتة فل عطرة في هذا الجو المحموم من صراعات الأفكار والشهوات.

هكذا يأتينا رمضان: حب، ومودة، ورحمة، ونسيان لما يمكن أن يعكر صفو النفوس، ولما يمكن أن يفرق بين الناس من توافه الأمور، فترى المؤمنين في توادهم وتراحمهم كالجسد الواحد تزيده الغربة منعة وصمودًا، فتراه غير آبه - في رمضان على وجه الخصوص- بأذى ذلك المجتمع الذي بدأ في الآونة الأخيرة يفتح أبوابه ولو شيئًا يسيرًا، يريد به أن يتعلم، وأن يفهم ما الذي يحمل هؤلاء الغرباء على حمل رمضان في قلوبهم أنى حلوا وأينما نزلوا؟، وماذا في ترك الطعام والشراب من إغراء يجعل هؤلاء القوم سعداء بذلك الشعور المقدس؟، وهم لا يعلمون أنها انطلاقة الروح متخففة من وشائج الجسد؛ لتحلق ربما ليس إلى العلو المنتظر، لكنها تُحلق دون شك في عوالم بعيدة عن عوالم المادة؛ حيث تصغر الأشياء من حولها، وحتى الأذى يصبح شيئًا تافهًا لا يستحق الوقوف عنده!!.

هذا هو سر رمضان، إنه تحليق هذه الأرواح قريبًا من رضوان الله، بعيدًا عن حياة الانغماس في قيل وقال، وخذ وهات؛ لتهبط فجأة إذا ما غربت الشمس، وأثبتت «الفضائيات» دخول الوقت، فتتشبث بإنسانيتها التي تهفو إلى «الحريرة المغربية»، و«الفتوش السوري»، و«الكباب التركي»، و«الملوخية المصرية»، و«الكبسة السعودية»، فتجتمع القلوب على ضحكات الفرح بالمغفرة، والحب في الله، وتختلف الأيدي على قصعة بساطة العيش الطيب الحلال، وتتعارف الأرواح وتتألف على رمضان الذي يُصبح بالنسبة لنا نحن المغتربين واحة للأمن، وساحة للنور، وملاذًا من الغربة وألمها، وموسمًا للحب، والجذور التي خلفناها في بلادنا، وجننا نحاول الانزراع هنا في هذه الأرض التي لا تنبت غراسنا فيها إلا فلا، عندما يكون سماد الأرض رمضان!!.

إن لرمضان في هذه البلاد وجه آخر لا تعرفه بلادنا، وجه السحور وضجيج أهله يثيرون حفيظة أهل البلاد، ووجه الإمساك وإثاره على وجوه الكبار والصغار يثير حسدهم تارة، واحترامهم تارة أخرى، ووجه اكتظاظ مساجد مدرید بالمصلين عن بكرة أبيها، قد أتوا من كل مكان في مشهد أشبه بالمظاهرة، تصيب المواطنين الإسبان بالدهشة، كما تصيب حركة المرور حول المساجد بالاضطراب والتعطيل!!.

لكنه يثير قبل ذلك كله حفيظة آخرين من أبناء جلدتنا، وهم يرون الوجه الآخر للوجود الإسلامي في هذه البلاد، والذي يتجلى بأسمى وأروع انعكاس لوجود هذه الأمة، وبقائها واستمرارها على أرض الواقع الرمضاني على وجه الخصوص؛ حيث تجد الباكستاني يفطر على الفول المصري، والليبي قد أعجبه طعام البوسني والفلسطيني قد أعجب بشدة حر البهارات السودانية!.

وعندما تجد الأخت الإيرانية، والسورية، والمغربية، التي أتت من شمال المغرب، قد وقفت: إلى جانب الصحراوية القادمة من جنوبه، والبوسنية والألبانية والأمريكية والكندية، قد سألت دموعهن جميعًا، وهن يرفعن الأيدي خلف الإمام الذي يدعو، «اللهم عليك باليهود وأعوانهم»، اللهم احفظ القدس وما حولها، اللهم شباب المسلمين، اللهم شباب المسلمين»!!.

وعندما ترى أصحاب الأقدام السوداء، والبيضاء، والصفراء، قد اصطفوا جنبًا إلى جنب، رفعوا الأكف بالتكبير، وخفضوا الجباه سجودًا للأعلى الذي علم وقدر، وحفظ لنا رمضان، عامًا بعد عام؛ لتتفتح فيه براعم آمالنا في أحياء النسائم التي تهب من تفتح أبواب الجنان.

إنه رمضان.. الذي حملناه في قلوبنا يوم خرجنا من بلادنا، وحملناه في محافظ السفر، كلما رحلنا إلى مكان لا مساجد فيه ولا مسلمين؛ لأنه هو الوطن لمن لا وطن له، وهو الأهل لمن لا أهل له، وهو الدفء لمن سرى برد الغربة في أوصاله، وهو فرحة الأمل في دياجير النأي عن الله، وهو شعاع السعادة للحزاني المبعدين، وهو السلام الذي نحط لديه رحالنا مستريحين من عناء الترحال والسفر.

الرابط المختصر :

موضوعات متعلقة

مشاهدة الكل

حرب عالمية بامتياز!

نشر في العدد 2073

8

الثلاثاء 01-يوليو-2014

ضربة جديدة ضد «الحجاب»

نشر في العدد 1522

14

السبت 12-أكتوبر-2002