; أكاشي.. الياباني الغامض | مجلة المجتمع

العنوان أكاشي.. الياباني الغامض

الكاتب أحمد منصور

تاريخ النشر الثلاثاء 21-مارس-1995

مشاهدات 18

نشر في العدد 1142

نشر في الصفحة 37

الثلاثاء 21-مارس-1995

حينما التقيت ضمن فريق من الصحفيين الغربيين مع المبعوث الخاص للأمم المتحدة لدى يوغسلافيا السابقة ياسوشي أكاشي في مؤتمر صحفي عقده في العاصمة المحاصرة سراييفو، بدأ الرجل وكأنه مغيب بالفعل عما يدور حوله، وكان أحد المراسلين قد قال لي قبل المؤتمر: إن السيد أكاشي يحمل ذاكرة ضعيفة للغاية، فكثيرًا ما يدلي بتصريحات ثم نسأله عنها بعد أيام قليلة فنجده لا يدري عنها شيئًا وكأنما صرح بها شخص آخر.
ولم أجد هذا الانتقاد للسيد أكاشي قاصرًا على المراقبين الذين يرصدون الأحداث والتطورات الجارية في البوسنة فقط، وإنما وصل إلى رؤساء السيد أكاشي نفسه وعلى رأسهم بطرس غالي -الأمين العام للأمم المتحدة- ففي الرابع من مايو 1994م، وجّه الأمين العام للأمم المتحدة بطرس غالي تأنيبًا شديد اللهجة إلى ياسوشي أكاشي حينما تجاوز أكاشي الخطوط الحمراء وانتقد سياسة الولايات المتحدة تجاه الوضع في البوسنة.
وطالب غالي في تصريحات صحفية بإجراء تحقيق في تصريحات أكاشي التي وصفها بأنها غير مقبولة على الإطلاق، وسارع غالي بتقديم اعتذار إلى المندوبة الدائمة للولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة مادلين أولبرايت عن تصريحات أكاشي، وقال في اعتذاره لها إنه يشاطرها القلق بسبب هذه التصريحات ووعد باتخاذ الإجراءات الضرورية لعدم تكرارها مستقبلًا.
وفي 16 ديسمبر 1994م وجّه كوفي عنان- مساعد الأمين العام لعمليات حفظ السلام في البوسنة- انتقادًا شديد اللهجة إلى ياسوشي أكاشي بعدما قام أكاشي بتقديم مقترحات سلام إلى الصرب، ووصف عنان هذه المقترحات بأنها تأتي في وقت غير مناسب وتبدو وكأنها تشكل دعمًا للصرب، واعتبر عنان دعوة أكاشي لوقف إطلاق النار في البوسنة يؤدي لمفاوضات بشأن تبادل الأراضي تبدو وكأنها إقرارًا واعترافًا بالوضع الراهن في البوسنة، وأن تقديم هذه المقترحات في وقت يحتجز فيه الصرب 356 جنديًّا دوليًّا هو أمر غير مقبول. 
غير أن اتهام مساعد الأمين العام للأمم المتحدة الموجه لأكاشي لم يحرك ساكنًا لدى أكاشي الذي يتحرك في البوسنة وفق سياسة غامضة تصب كلها في محور دعم الصرب سرًّا وعلنًا، فحينما هاجمت إحدى الفرق الخاصة للجيش البوسنوي موقعًا صربيًّا فوق جبل إيجمان، وقتلت عشرين ضابطًا صربيًّا في أكتوبر الماضي 1994م، أعلن أكاشي بعد ساعات إدانته للجيش البوسنوي مدعيًا أن القتلى من المدنيين، وهدد بأنه سيطالب قوات حلف الأطلسي بشن غارات على مواقع جيش البوسنة.
ويبدو أن تصريح أكاشي خرج بالرئيس البوسني علي عزت بيجوفيتش عن صمته إزاء تصرفات أكاشي غير المقبولة من حكومة البوسنة، فعقد مؤتمرًا صحفيًّا في 11 أكتوبر 1994م اتهم فيه أكاشي بالافتراء على جيش البوسنة، وطالبه بتقديم اعتذار رسمي للحكومة البوسنية، وتساءل بيجوفيتش قائلًا: لماذا قام أكاشي وروز بهذه السرعة الفائقة وبعد ساعات معدودة من الحادث بردة لم نعهدها عنهما عندما يتعرض المسلمون للقتل؟
وكان أكاشي قد تسبب في فضيحة كبرى للأمم المتحدة في مايو الماضي 1994م، حينما عقد اتفاقًا سريًّا مع الصرب سمح لهم فيه بنقل سبع دبابات تابعة لهم عبر منطقة منزوعة السلاح تمتد عشرين كيلومترًا حول العاصمة سراييفو وتقع تحت سيطرة القوات الدولية، إلا أن حكومة البوسنة اكتشفت ذلك وأعلن رئيس وزراء البوسنة حارث سيلاجيتش شجبه للأمم المتحدة وممثلها في البوسنة ياسوشي أكاشي، وقال سيلاجيتش: «إننا نصف هذا بأنه مشاركة نشيطة في العدوان على البوسنة والهرسك، وإننا نطالب باستقالة أكاشي بسبب التنازلات التي قدمها الصرب البوسنة».
وحينما فاحت رائحة الفضيحة اعترف أريك شابيرون المتحدث الرسمي باسم الأمم المتحدة في البوسنة والهرسك بأن قوة الحماية الدولية قد واكبت دبابتين صربيتين وسمحت لهما بالمرور عبر المنطقة، ورغم أن بطرس غالي قد وجه انتقاده لأكاشي في نفس الوقت ولكن لسبب آخر، إلا أنه أعلن تمسكه بأكاشي وبإبقائه في منصبه ذلك ردًّا على مطالب حكومة البوسنة باستقالة أكاشي واعتباره شخصًا غير مرغوب فيه، وقال غالي: «إذا كانت حكومة البوسنة لا تريد أن تتحدث مع أكاشي، فإن ذلك يعني أنهم لا يريدون أن يتحدثوا معي.. وإذا كان هؤلاء لا يريدون أن يتحدثوا معي فإننا سوف ننسحب من البوسنة»، إلا أن الرئيس بيجوفيتش ظل خمسة أشهر يرفض اللقاء بأكاشي أو الحديث معه فيما بقي رئيس الوزراء البوسني حارث سيلاجيتش يرفض الحديث مع أكاشي أكثر من ثلاثة أشهر.
وأبلغني وزير شئون الأمم المتحدة في حكومة البوسنة حسن مراتوفيتش في لقاء أجريته معه في ديسمبر 1994م، بأن حكومة البوسنة تملك كثيرًا من الوثائق والدلائل التي تدين تصرفات أكاشي في البوسنة وانحيازه الواضح للصرب.
ولعل آخر تصريحات أكاشي التي لاقت استهجان المجتمع الدولي هو إدانته للفيلق البوسنوي الخامس التابع للجيش البوسنوي المدافع عن بيهاتش واتهامه للمسلمين الذين يدافعون عن ما يقرب من مائتي ألف مدني محاصرين في بيهاتش بأنهم هم السبب في تفاقم المعارك هناك.
أما التصريح الأعجب من هذا فهو ما صرح بها أكاشي في 15 مارس الجاري 1995م، بأن المسلمين هم الذين يتسببون في إغلاق مطار سراييفو بسبب إقدامهم على قتل الصرب «فكل صربي يقتل سوف يكلف المسلمين إغلاق مطار سراييفو شهرًا كاملًا».
ورغم الانتقادات الدولية التي توجه إلى تصرفات أكاشي الغامضة والذي يتخذ من «بالي» التي أعلنها صرب البوسنة عاصمة لهم مقرًا لإقامته، إلا أنه يقول للصحفيين الذين يوجهون له الانتقادات دائمًا: «أنا لا أعبأ بالضغوط ولن أستقيل من منصبي، ويكفي أن الأمين العام للأمم المتحدة قال لي إنه يثق بي ثقة كاملة، ثم إنني أملك من القوة ما يكفي لأن لا ألتفت للذين ينتقدون ما أقوم به».
ولعل أكاشي وضع بهذه التصريحات النقط فوق الحروف حول ما يتعلق بشخصيته ووجوده في هذا المكان للقيام بهذا الدور، لكن الذين يتساءلون عن سر قيام ياباني بهذا الدور في الوقت الذي لا تظهر فيه مشاركة اليابان في قضايا العالم سوى بدور ضئيل، عليهم أن يدركوا أن طبيعة اللعبة الدولية بها غموض كثير يتضح في قيام دولة مثل النرويج بدور كبير في ترتيب العلاقة بين إسرائيل، والفلسطينيين، وقيام دولة مثل أستراليا بترتيب العلاقة بين «إسرائيل» ودول جنوب شرق آسيا المسلمة، ويكفي أن يدرك هؤلاء بأن اليابان واحدة من دول العالم القليلة التي لم تعترف باستقلال جمهورية البوسنة والهرسك حتى الآن.

الرابط المختصر :

موضوعات متعلقة

مشاهدة الكل

حول العالم

نشر في العدد 2

35

الثلاثاء 24-مارس-1970

حول العالم - العدد 8

نشر في العدد 8

101

الثلاثاء 05-مايو-1970