العنوان خفايا الاغتيالات السياسية في اليمن! القوى السياسية تتبادل الاتهامات.. والفاعل (معروف).
الكاتب ناصر يحيي
تاريخ النشر الثلاثاء 11-أغسطس-1992
مشاهدات 28
نشر في العدد 1011
نشر في الصفحة 24
الثلاثاء 11-أغسطس-1992
· الصراع الداخلي والتنافس بين كوادر الحزب الاشتراكي والخلافات السياسية بين أجنحته لها نصيب مهم في مسلسل الاغتيالات.
طرأت حالة من الرعب على أحد الجرحى الذي أدخل إلى المستشفى بطلق ناري في أحد مستشفيات العاصمة اليمنية صنعاء، وطلب بإلحاح إحضار رجال الأمن؛ لأن لديه معلومات خطيرة حول الاغتيالات السياسية التي عصفت بالمجتمع في الفترة الأخيرة، ويشترط نقله إلى مكان آخر آمن في حماية الأمن.
وبسرعة تم نقل المصاب بطلق ناري إلى مكان آمن، وتجمع حوله عدد من ضباط الأمن للاستماع لأقواله التي أوضحت أنهم قد أمسكوا بطرف الخيط الذي يؤدي إلى انكشاف حقيقة الحوادث الأمنية، والتي كان أبرزها محاولة اغتيال وزير العدل اليمني في منتصف النهار، وفي أحد أشد شوارع صنعاء ازدحامًا. وكانت المفاجأة أن المعلومات المذهلة التي أدلى بها المصاب تمس عددًا من الشخصيات السياسية البارزة في التيار اليساري نفسه، الأمر الذي جعل وزير الداخلية اليمني يسارع بنفسه لرؤية المصاب، والإشراف على التحقيقات التي أحيطت بسرية تامة خوفًا على حياة الرجل من الانتقام.
وفي خلال أيام معدودة، تمكن رجال الأمن من القبض على بقية أفراد المجموعة المتهمة باستثناء فرد ظل مختفيًا في كهف جبل في قريته قبل أن يجبره الحصار أو تبرؤ أبناء قبيلته منه على الاستسلام.
انكشاف الفضيحة!
المعلومات الأولية حول اعترافات المتهمين تسربت من أكثر من جهة إلى عدد من الصحف الأهلية، والتي نشرت تلميحات واضحة عن الجهة المنفذة لمحاولة اغتيال وزير العدل، وهي تمس أحد الأحزاب الناصرية الراديكالية، والتي كان لها - وما يزال - علاقات قوية مع الحزب الاشتراكي الحاكم الذي ينتمي إليه وزير العدل نفسه.
اغتيال المهندس الحريبي:
كان اغتيال المهندس حسين الحريبي يوم العاشر من سبتمبر 1991م هو البداية البارزة لمسلسل الاغتيالات الذي اتخذ صورة واحدة بأسباب متعددة.
المهندس الحريبي كان يتولى مسؤولية أمانة أحد الأحزاب الصغيرة في العاصمة، وعندما اغتيل، كان يركب معه في سيارته الأمين العام للحزب نفسه وابن المهندس الصغير.
ولأن الأمين العام (عمر الجاوي) كان شخصية صدامية سياسيًّا، فقد اعتبر بأنه كان هو المستهدف الأصلي من العملية. ولأن (الجاوي) كان أبرز خصوم أسلمة الدستور اليمني، والداعي بصراحة لاعتماد (العلمنة) في المجتمع؛ فقد استغل خصوم الإسلاميين جريمة الاغتيال لإلصاقها بهم عبر استخدام الأوصاف المتداولة لدى العلمانيين، مثل (القوى الظلامية) و(القوى المتطرفة).
رغم أن صحيفة (الجاوي) نفسه لم تتورط في مثل هذا الاتهام، واستعملت لغة أخرى توحي باتهام شخصيات رسمية كبيرة في قمة الدولة، سبق وأن تعرضت لنقد حاد عبر مقال رمزي نشرته الصحيفة.
التناول الإعلامي العام استنكر الجريمة بقوة، لكن صحافة الحزب الاشتراكي الحاكم، والموالية له، استغلت الفرصة، كما أسلفنا، لتحميل الإسلاميين مسؤولية الحادث عبر تلميحات وتصريحات غير مباشرة. ولعل ذلك أحد أبرز أخطاء الإعلام اليساري؛ حيث أعطى الغطاء المطلوب إعلاميًّا لإخفاء حقيقة الجهات التي تقف وراء سلسلة من الجرائم التي كان للاشتراكيين نصيب وافر من ضحاياها!!
وقد توالت سلسلة الاغتيالات بعد ذلك في عدد من المحافظات، حتى كانت المحاولة الفاشلة لاغتيال وزير العدل (عبد الواسع سلام)، فاستنفرت الدولة أجهزتها بقوة، وسارعت الحكومة لتطبيق خطة للحماية من اغتيال أحد الوزراء أنفسهم.
البحث عن تفسير!
اختلفت تفسيرات المتابعين لتطورات مسلسل الاغتيالات. ومع اشتداد الأزمة، أخذت التيارات السياسية توجه الاتهامات غير الصريحة حتى لحظة الاعتراف في المستشفى التي خلطت الأوراق بصورة لم يتوقعها أحد.
ويمكننا هنا أن نوجز أبرز التفسيرات وحيثياتها كما عبرت عنها الصحافة اليمنية بتياراتها المتنوعة.
إن اتهام الإسلاميين بصورة غير مباشرة، وقد تولت ذلك الصحافة اليسارية، ولاسيما صحافة الحزب الاشتراكي الحاكم، على اعتبار أن الخصومة بين التيارين شديدة وتاريخية، كما ظهر ذلك بوضوح أثناء المعركة الفكرية حول الدستور.
وللأمانة، فإن القيادات البارزة في الحزب الاشتراكي قد التزمت الحياد ظاهريًّا، لكن الصحافة التابعة لها يسيطر عليها أتباع الجناح المتطرف في الحزب.
التفسير المضاد كان يؤكد أن عمليات الاغتيال التي استهدفت كوادر الحزب الاشتراكي، كانت نتيجة للصراع الداخلي بين تيارات الحزب المتنافسة على الحصول على الغنائم التي كانت من نصيب الحزب بعد الوحدة، إضافة للتأثيرات التاريخية بين أجنحة الحزب الذي شهد تاريخه عبر 20 عامًا حوادث بشعة من الاقتتال، كان أبرزها حوادث 13 يناير 1986م.
ويستدل أصحاب هذا التفسير بعدد من الحوادث مثل اغتيال المسؤول الحزبي الأول في محافظة (إب) بعد ساعات من انتخابه على يد المسؤول الأول السابق للحزب كما راجت الإشاعات. وهناك أيضًا عملية اغتيال المسؤول الحزبي الأول في محافظة (صعدة) والتي وجه الاتهام فيها إلى المسؤول الحزبي السابق كذلك!!
التفسير الثالث كان يوجه الاتهام لأطراف أخرى يهمها تفجير الصدام بين التيارين الاشتراكي والإسلامي.
من القاتل؟
على أن الأقرب للصواب أن هناك أكثر من سبب وأكثر من تفسير يصلح لإعطاء إجابة معقولة عن خفايا الاغتيالات السياسية. فلا شك أن الصراع الداخلي، والتنافس بين كوادر الحزب الاشتراكي أو الخلافات السياسية بين أجنحته لها نصيب مهم في مسلسل الاغتيالات. وبالإضافة إلى ما حدث في (إب) و(صعدة)، فإن أبرز الحوادث التي يتوقع المراقبون أن يكون سببها الصراع الداخلي هي حادثة التفجيرات التي مست منزل نجل سالم صالح محمد الأمين العام المساعد للحزب الاشتراكي، والمهندس (حيدر أبو بكر العطاس) عضو المكتب السياسي ورئيس مجلس الوزراء، وهما حادثتان يغلب على ظن المراقبين أنهما رسالتان من الجناح المتطرف في الحزب بعد موافقة القيادات العليا للحزب على قرار العفو عن الرئيس السابق علي ناصر (محمد) وعدد من مؤيديه الذين حكم عليهم الحزب الاشتراكي بالإعدام بعد أحداث 13 يناير 1986م.
ومن الحوادث المشابهة محاولة فاشلة لاغتيال عضو المكتب السياسي للحزب الاشتراكي (محمد حيدة مسدوس) من قبل أحد أعضاء الحزب نفسه، ويعمل في مقر الحزب في المنطقة الغربية في العاصمة. ومما يلفت النظر في هذه الحادثة هو الصمت التام عنها من قبل صحافة الحزب، رغم نشر أخبارها في عدد من الصحف اليمنية، ورغم أن الصحافة الاشتراكية تحيط أمثالها بضجة مفتعلة!!
وهناك عامل مهم يمكنه تقديم تفسير لعدد آخر من الجرائم؛ وهو ما يمكن تلخيصه في كلمة واحدة (الانتقام).
فالمعروف أن فرع الحزب الاشتراكي في الشمال (سابقًا) قد خاض حروب عصابات طويلة في السبعينات وبداية الثمانينات مدعومًا من النظام السابق في (عدن) ومن النظامين الليبي والإرتيري. وبتأييد خفي من الاتحاد السوفيتي، وهي حرب كان من آثارها سقوط عشرات القتلى نتيجة زرع الألغام وتسميم الآبار والاغتيالات التي كانت ظاهرةً بارزةً في اليمن الشمالي آنذاك، وطالت عددًا من كبار المسؤولين والمشايخ!
ولعل مما يعطي صورة واضحة من ذلك ما تنشره الصحافة اليمنية بين حين وآخر من رسائل من مواطنين تناشد الدولة عدم العفو عن مرتكبي حوادث الاغتيال وإحراق الأراضي الزراعية وزرع الألغام التي ما تزال بعضها ينفجر من وقت لآخر!
وقد شهد أحد شوارع العاصمة حادثة مثيرة عندما أطلق أحد المواطنين الرصاص على (ضابط) فأرداه قتيلًا، ثم وقف بكل هدوء بجانب الجثة وهو يعرض على المتجمهرين حوله صورة حكم شرعي نهائي بالقصاص من المقتول.
وقد اتضح أن المقتول سبق له ارتكاب عدد من حوادث القتل وفر من العدالة، حتى إذا قامت الوحدة اليمنية انخرط في عضوية الحزب الاشتراكي وتم منحه رتبة عسكرية، لكن أهل (الدم) ظلوا يتابعونه حتى انتقموا لأنفسهم!! وعلى شاكلة ذلك شهد الريف اليمني عددًا آخر من الاغتيالات، ولاسيما في المناطق التي كانت مسرحًا لحروب العصابات.
أما التفسير الذي يوجه الاتهام إلى قوة ثالثة تسعى لتفجير الصدام بين التيارين الاشتراكي والإسلامي فهو تفسير غير مستبعد، ولكن الاعتراف به علنًا معناه دخول البلد في نفق مظلم ويبرئ ساحة الإسلاميين، وهو أمر لا يبدو أن التيار الاشتراكي على استعداد للإقرار به؛ لأنه بنى سياسته الحالية على أساس أن معاداة الإسلاميين وتأليب القوى الأخرى عليه يوفر له شيئين مهمين:
الأول: أن وجود خصم يخفف من حدة المشاكل الداخلية، ويؤجل احتدامها بحجة أن الحزب وكل أعضائه مستهدفون.
الثاني: أن التيار الإسلامي هو الأكثر شعبية ويمثل البديل الممكن، لاسيما إذا أخذنا في الاعتبار أن الشريك الآخر في الحكم (وهو المؤتمر الشعبي العام) لديه قواسم مشتركة كثيرة مع الإسلاميين. لذا، فإن تبرئة الإسلاميين معناه إضافة المزيد إلى شعبيتهم ومصداقيتهم، ولاسيما بعد الحملة الشرسة التي استهدفتهم بقيادة صحافة الحزب الاشتراكي نفسه.
لعبة التوازنات!
والغريب في قضية الاغتيالات المتابعة في اليمن أن مرتكبيها يكونون في الأحيان معروفين، أو تحيط بهم شبهات قوية، أو يقعون في أيدي رجال الأمن (كما حدث في محاولة اغتيال وزير العدل)، لكن وبرغم كل ذلك لا يسمع المواطنون شيئًا عن نتائج التحريات أو التحقيقات؛ لأن لعبة التوازنات بين الحزبين الحاكمين تفرض تجميد كل شيء إذا لم يكن في صالح الطرفين معًا، وهو أمر يسبب كثيرًا من الإحراج للمؤسسات الأمنية، ويحملها مسؤولية الانفلات الأمني، إضافة إلى كونه أحد العوامل الرئيسية لاستمرار مسلسل الاغتيالات.