; السودان: قصة صراع الإسلاميين الطويل مع نظام مايو البائد | مجلة المجتمع

العنوان السودان: قصة صراع الإسلاميين الطويل مع نظام مايو البائد

الكاتب مجلة المجتمع

تاريخ النشر الثلاثاء 20-أغسطس-1985

مشاهدات 15

نشر في العدد 730

نشر في الصفحة 20

الثلاثاء 20-أغسطس-1985

 

  • البطانة الشيوعية لنميري هي التي وضعت له الميثاق فاشتركت معه في دفع السودان إلى ما وصل إليه من انهيار
  • جميع الفئات اللا إسلامية اشتركت مع نظام مايو في محاربة الإسلاميين 
  • عندما شعر نميري بخطر الإسلاميين عليه قرر تصفيتهم وقبض الثمن من الولايات المتحدة.. ولكن!

في مقالنا هذا سنحاول حصر بعض الجوانب في علاقة «نميري» وبطانته كنظام للحكم كان يهدف إلى البقاء على العرش بأي وسيلة وتحت أي ظرف وبين الاتجاه الإسلامي كحركة تهدف إلى تحكيم شرع الله على أرض الله لإسعاد عباد الله وتحقيق خلافتهم في كل شأن من شئون حياتهم...

 وسنتطرق من خلال ذلك إلى الصراع والمواجهة والقطيعة التي كانت بينهما، منذ أن كان هذا النظام في عام ١٩٦٩م وحتى كان ما كان من أمره في منتصف رجب الماضي..

  • أولًا: فترة ما قبل المصالحة ١٩٦٩م - ١٩٧٦م: -

عندما قام الانقلاب الشيوعي برئاسة «نميري» عام ١٩٦٩م، كان للإسلاميين الأولوية في السجن والحبس والاستجواب، وأدخل قادة العمل الإسلامي في سجون النظام ومنهم: «الترابي، الشهيد محمد صالح عمر، الكاروري، الصادق عبد الله عبد الماجد، يسن عمر الإمام، وغيرهم».. وقد ظل بعض الإخوان ومنهم الدكتور الترابي في سجون النظام سبع سنوات متواصلة لم تنته إلا في ١٩٧٦م، وتصدر الإسلاميون قوائم الطرد والتشريد والفصل من الخدمة المدنية، وفصل الأساتذة الإسلاميون من جامعة الخرطوم عام ١٩٧٠م فقط لأن دينهم هو الإسلام، وحل النظام كل اتحادات الطلاب في الجامعات والثانويات لأن الذين كانوا يشغلون مقاعدها من الطلاب هم الإسلاميون، وصفيت الجامعة الإسلامية وحاولوا تحويلها إلى كلية واحدة وطردوا مديرها من منصبه، أما بقية قادة الأحزاب حوكموا محاكمات عسكرية صورية وأطلق سراحهم بعد فترة وجيزة من محاكمتهم.

وفي يوليو ۱۹۷۰م انقلبت الدائرة على بطانة الرئيس من الشيوعيين حينما حاولوا الانفراد بالسلطة بالانقلاب عليه، وكان خسرانهم من جهتين اثنتين إحداهما فقد جميع قادتهم الذين قتلهم النظام، وثانيهما: مسئوليتهما التاريخية عن تقويض النظام الديمقراطي في السودان بتنفيذهم وتخطيطهم لانقلاب مايو ١٩٦٩ م ثم تسليمه من قبلهم للنميري.

بعد ذلك تجمعت بطانة أخرى حول «الرئيس»! ووضعوا له الدستور والميثاق وقانون أمن الدولة والطوارئ وجمعوا له كل السلطات في يده - السياسية والتنفيذية والتشريعية، والقضائية - فصاروا يخططون ويشرعون ورئيسهم صاحب السلطات المطلقة يتخبط ذات اليسار تارة وذات اليمين تارات أخرى، فكان لجعفر بخيت وعمر الحاج موسى وشرذمة من الشيوعيين واليساريين المسئولية الكاملة في تلك النتيجة المؤلمة المؤسفة التي وصل إليها السودان بعد ست عشرة سنة من حكم القرد الجاهل المغرور.

دخل هؤلاء جميعًا ومعهم ثلة من النفعيين في صراع ومواجهة مع الإسلاميين الذين لم يجدوا متنفسًا يردون به الكيل إلا في جامعة الخرطوم، فحاصروها بالدبابات أكثر من مرة ووقفوا خلفها وصاروا يهتفون بملء الفم «أضرب أضرب يا أبا القاسم»، «حاسم حاسم یا أبا القاسم»!! وأبو القاسم هذا هو «أبو جهل» النظام السابق وكان يظهر وهو مخمور على شاشة التلفاز، وهو الذي خاطب أعضاء الاتحاد الاشتراكي ووعدهم بفتح البارات والحانات من جديد، وهو رائد متقاعد في الجيش.

 وبالرغم من هذه الحرب المسلحة ضد الإسلاميين إلا أنهم استطاعوا تنفيذ أكبر انتفاضة شعبية ضد نظام «نميري» في عام ۱۹۷۳ - انتفاضة شعبان التي لا ينكر دورها في زعزعة النظام إلا مكابر، وهي شبيهة بتلك التي أطاحت به في رجب الماضي - وبعدها شدد الحصار على الإسلاميين وامتلأت سجونه بهم فكان عدد الطلاب الإسلاميين فقط في سجن «ديك» الصحراوي أكثر من ألف طالب.

 وشدد الإسلاميون بدورهم خصومة ومقاتلة النظام واستمروا في كشفه وتعريته للناس داخليًا، بجانب اشتراكهم في حربه خارجيًا وذلك باشتراكهم في «الجبهة الوطنية» مع حزب «الأمة» و«الاتحاديين» بعد أن تمكنوا من إبعاد الشيوعيين عنها، واستطاعوا أن يهجموا عليه الهجمة العسكرية التي أزعجته وأقلقت مضجعه في عام ١٩٧٦م، فأضيفت إلى رصيدهم الجهادي والذي بدأوه ضده منذ قيامه وفي عام ۱۹۷۰م حيث اشتركوا مع الإمام الهادي -رحمه الله- في الجزيرة «أبا» فقتل العشرات منهم وعلى رأسهم الشهيد محمد صالح عمر رحمه الله.

  • ثانيًا: فترة ما بعد المصالحة ١٩٧٦ - ۱۹۸۳م: -

برصيدهم الجهادي، وخطهم المتميز ووجودهم البين في كل ساحة من ساحات العمل، استطاع الإسلاميون إثبات ذاتهم، وتحقيق الندية للنظام، الذي اقتنع رئيسه أن لا وسيلة لبقائه إلا بالرضوخ للصلح بينه وبين أعضاء «الجبهة الوطنية»، فكان الصلح بينه وبين الصادق المهدي من جهة، ومن جهة أخرى وبشروط أخرى بينه وبين الإسلاميين الاتجاه الإسلامي - الذي اشترط على النظام التوجه قبل الإسلام فرضخ النظام لتكوين «لجنة مراجعة القوانين» لتتماشى مع الشريعة الإسلامية، ولإعلان التوجه الإسلامي في ولاية «الرئيس» الثانية. وسنحت الفرصة للإسلاميين بالعمل ونشر الدعوة للناس كافة ومن كل منبر كما استطاعوا أن ينازلوا النظام نفسه في كل ساحة يدعيها، انتخابيًا أو فكريًا أو ثقافيًا أو حركيًا... فما استطاع منازلتهم وحربهم ولا تمكن من هزيمتهم وقهرهم، وجرب اليساريون في الاتحاد الاشتراكي كل الوسائل والأساليب لقهرهم وإبعادهم، ولكن: «شتان ما بين سنور ورئيال»، فلجأوا أخيرًا إلى محاولة الإيقاع بينهم وبين «الرئيس»، وإلى إحراجهم أمامه في كل محفل ولقاء، ليسرع في طردهم ويريحهم من ذلك الصراع، وقبل أن يفسدوا عليهم كل شيء.. فها هي إحدى قادة اليسار في الاتحاد الاشتراكي -آمال عباس- وفي أول أو ثاني لقاء للجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي بعد المصالحة، وأمام قادة النظام جميعًا وبحضور السيد الصادق المهدي، تقف لتسأل الترابي علنًا: نرجو من الترابي أن يحدد لنا علاقته بالاتحاد الاشتراكي؟ وهل له ولاء لغيره؟! وإن كانت إجابته بلا فنرجو أن يحدد لنا ويحدثنا بوضوح عن علاقته بما يسمى بالاتجاه الإسلامي بجامعة الخرطوم؟! فيتدخل «الرئيس»! مقاطعًا، ويطلب منها أن تسأله هذا السؤال خارج الاجتماع، ويأمرها بالجلوس والسكوت، فتجلس وتسكت ويسكت الجميع!..

«فالنميري» وبطانته جميعًا ما ساورهم الشك يومًا في أن الاتجاه الإسلامي له أهداف تختلف عن أهدافهم وطريق مغاير لطرقهم وأساليب للعمل لا توافقهم ولا تناسب ما يهدفون إليه من سيطرة وغنى وجاه. وكان الصراع واضحًا بينهما في كل زمان ومكان، وقد بان ووضح وانجلى وتأكد للناس جميعًا في مواقف ومجالات شتى، من أبرزها: -

«1» انتخابات النظام:

في أول انتخابات المجلس الشعب القومي بعد المصالحة رشح المحامي علي عثمان طه نفسه كممثل «للاتجاه الإسلامي» في الدائرة التي يسكن فيها «الرئيس»! ويقع فيها القصر الجمهوري وإدارة الأمن القومي والاتحاد الاشتراكي والقيادة العامة للجيش ومعظم وزارات الخدمة المدنية، وينافسه في نفس الدائرة أحد أعضاء الاتحاد الاشتراكي -الجريفاوي- ويسعى الاتحاد الاشتراكي بكل إمكانياته المادية والإعلامية لإسقاط المحامي المسلم، فيفوز المحامي فتعلن إذاعة لندن: «وقد فاز المحامي علي عثمان، أحد أعضاء جماعة الإخوان «الأصولية»! على أحد أعضاء الاتحاد الاشتراكي في الدائرة التي يسكنها الرئيس جعفر نميري»!!

ولم تقف المنافسة بين الاتجاه الإسلامي وأعضاء الاتحاد الاشتراكي عند هذا الحد بل كانت في كل انتخاب قام به النظام منذ فجر المصالحة إلى يوم انهياره في ١٥ رجب ١٤٠٥هـ، ووثائق الانتخابات لمجلس الشعب في كل الدوائر الانتخابية وللمجالس القاعدية والمحلية والنقابية والطلابية أكبر دليل على المنافسة التي كانت بين الاتجاه الإسلامي والنظام المايوي.. وفي واقع الأمر: هل يحتاج النهار إلى دليل؟!! 

«2» شخصية الترابي وعزته الإسلامية:

الترابي شخصية إسلامية جمع بين معرفة علوم الشريعة والقوانين الإنجليزية والفرنسية وغيرها.. فهو قاض من القضاة المهرة ومقننًا من المقننين القلائل.. له شخصية إسلامية متميزة وعزة إسلامية نادرة وفكر إسلامي نير وصفات إيجابية أخرى كثيرة متعددة تميزت بها شخصية الشيخ حسن الترابي وكانت كلها نقاط خلاف ماثلة للعيان بين «اتجاه إسلامي» يقوده مثل هذا الرجل، وبين نظام يترأسه جاهل مغرور جمع حوله ثلة من أرازل النفعيين الدنيويين مبتغي العرض الزائل.

 كانت شخصية الترابي تشكل عقبة كؤودًا وتمثل عائقًا خطيرًا في الوفاق والاتفاق بين الاتجاه الإسلامي وجماعة النظام الحاكم، بل كانت تشكل الخطر الجثيم على «النميري» نفسه والذي لا يكاد يبصر قيمة لنفسه أمام الرجل، ولا يتحمل الاستماع إلى آرائه الجريئة في كل خطوة من خطوات نظامه.

ففي مؤتمر القيادات الشعبية عام ١٩٨١م وبعد أن أعلن «النميري» تصفية وحل الاتحاد الاشتراكي وأماناته ومجالسه القاعدية، وجمع مؤتمرًا للقيادات الشعبية لتحديد «المسار» من جديد يقف الترابي ليعلن أمام الملأ: «أن لا حل المشاكل هذا البلد طالما أن جميع السلطات مجتمعة في يد فرد واحد، ولا سبيل للخروج من تلك المشاكل الاقتصادية والسياسية إلا بفصل وتوزيع السلطات واستقلال السلطة التشريعية والقضائية، وتجديد وإعادة النظر في السلطات الدستورية لرئيس الجمهورية...»!! 

وفي محاضرة بكلية الطب بجامعة الخرطوم وأمام عشرات الألوف من الطلاب والأساتذة والموظفين وغيرهم يستخف الترابي بشخصية الرئيس ويصفه بقصر النظر وعدم الكفاءة والارتجال في اتخاذ القرارات!! 

-وفي محاضرة بميدان «أبي جنزير» بالخرطوم، يصب الترابي جام غضبه على النظام ويهاجم قيادته وسوء تخطيطها وتخبطها وعلاقاتها الخارجية غير المتوازنة.. 

-ويذهب إلى جامعة الخرطوم فينتقد علنًا «حملات تفريغ العاصمة» - ۱۹۸۲م بتلك الصورة البشعة التي تصف المواطن بالوافد المتشرد.

وفي لقائه مع مراسلي الصحف العربية والأجنبية يتحدث الترابي بصفته المتميزة وبكونه داعية إسلاميًا، في السودان متجردًا عن كل علاقة وظيفية له.

- هذه وعشرات المواقف البارزة الأخرى تقف شاهدًا على تمسك الرجل بأهدافه العليا وإصراره على تحقيقها بدون میل أو تحريف. والنميري نفسه شاهد على نقد الرجل لخطه واعتراضه على سياساته جملة، ففي لقاء له بمجلس الوزراء يفرد زمنًا خاصًا للحديث عن الترابي ويقول: «نحن نعمل إيه؟ إذا كان أي قرار من القرارات -ينطقها الرئيس بالقين- يذهب بعضنا وينقده في الجامعة»! وكان يقصد الترابي وهو الوحيد الذي استطاع أن يسمعه قولة «لا» دون سائر الناس.

«3» صحيفة «الأيام» ويسن عمر الإمام:

إبان تولي «يسن» رئاسة تحرير جريدة «الأيام» الحكومية اليومية في ۱۹۷۹م ظلت الجريدة اللسان الناطق باسم الإسلام، وقل التطبيل والنفاق واختفت مظاهر مسيرة السلطة في كل شيء، وبرزت المواضيع والمقالات التي تنادي بضرورة الاستعجال نحو الحل الإسلامي والتي تحث وتدعو الرئيس نفسه إلى التقدم وترك المماطلة في التوجه إلى الله.

فما كان من بطانة الرجل وعلى رأسهم «ابن العلقمي» -بهاء الدين- إلا أن تجمعوا حوله وأملوا عليه تصفية «يسن الإمام» من أجهزة الإعلام، التي ما عادت أجهزة تابعة للاتحاد الاشتراكي، والتي تغير الخط المرسوم لها تمامًا. وما كان منه إلا أن نفذ لهم رغباتهم بإبعاد «الإمام» من أجهزة الإعلام، ومن رئاسة تحرير «الأيام»، فهللوا وكبروا باسم القائد وخاصة عندما حل محله ضابط الأمن القومي «حسن مساتي».

 وصراع «يسن» وحده مع أجهزة النظام يمكن أن يشكل بل يشكل بالفعل جانبًا من جوانب الهدم الفعلي له وتعريته وفضحه للناس كافة..

-«يس» هذا هو الذي استطاع الوصول إلى إجازة قانون تحريم الخمر بعقوباته وعدم بيعه من مجلس «أم درمان» فهاج وماج «القائد» وثارت ثائرة أتباعه، فأعاد شرعية شربها مرة أخرى بقرار جمهوري!!

- ويس هو الذي فاز على عضو الاتحاد الاشتراكي في آخر انتخابات المجلس الشعب القومي بـ ١٤ ألف «أربعة عشر ألف» صوت مقابل ألفين لعضو الاتحاد الاشتراكي مما جعل «نميري» يحتج على جماعته ويسألهم عن جماهيرهم التي يتكلمون عنها في كل أن ومكان.

 ويسن هو الذي تحدث عن الإسلام في عقر دار النظام «الاتحاد الاشتراكي» وتناول في العديد من المرات بالنقد والتحليل والفضح ما يمكن أن تجلبه الاشتراكية من مصائب ومحن للناس.

-وما كان «يس» في كل حركة من حركاته وتصرف من تصرفاته إلا شوكة وغصة في حلق النظام ما استطاع بلعها أو مضغها. 

ونحن لا نزكي على الله أحدًا، إلا إننا نود أن نقول إن ما كان يمارسه الشيخ حسن الترابي والأخ يسن عمر الإمام وحده بدليل كاف وآية واضحة ورد جلي على كل من تخيل إن الاتجاه الإسلامي كان بمثابة الدعم لنظام «نميري».. أي دعم هذا؟ وفي أي مجال؟ وكيف؟..

«4» شباب البناء ونهضة المرأة:

تنظيمات للشباب المسلم والمرأة المسلمة، عملًا في شتى مناحي الحياة، تكونا ومارسا عملهما دون علم أو إذن من الاتحاد الاشتراكي، ودون علم اتحاد الشباب الحكومي، ودون رقابة منهما -وأصبحا يرفعان شعارات مختلفة عن تلك الشعارات الجوفاء التي اعتاد الاتحاد الاشتراكي رفعها دون عمل- فشعار: «من كان له فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له» حل ضائقة المواصلات فترة طويلة من الزمان حتى حاربته السلطة واعترضت سبيله حينما شعرت بأنه مرفوع من «شباب البناء»!! وأسبوع الشجرة ومشروع محاربة التصحر والجفاف، ومشروع نظافة العاصمة، والمؤتمرات الثقافية المتعددة المتنوعة، كلها شعارات رفعها هذا التنظيم الشبابي المسلم، وبدأ بالفعل في تنفيذ الكثير منها، ولولا الغيظ الذي كان يلحق أعضاء الاتحاد الاشتراكي من نجاحاته لحققت تلك المبادرات الكثير من الفوائد الشعب السودان المسلم.

وبالمثل تنظيم «نهضة المرأة» الذي ساهم في دفع المستوى الصحي والاجتماعي والوعي الديني والثقافي حتى ملأ الغيظ والغيرة صدر «رئيس الجمهورية»! نفسه من تقدمه ونشاطه فراح يصيح في اتحاد نساء السودان الحكومي ويتضجر ويغضب من كسله وتقاعسه، ويأمر بحله وإعادة تكوينه كي يمارس أعماله بفعالية كتلك التي رآها وسمع بها عند تنظيم «نهضة المرأة».. ولم يكتف بذلك، بل أقال رئيس مجلس الشباب من منصبه وعين بدلًا منه أبا القاسم إبراهيم الذي اتهمه من قبل بمحاولة الهيمنة على سلطاته إلا أنه جاء به هذه المرة ليهدم هذين التنظيمين ويقف لهما سدًا منيعًا دون الحركة والتقدم، ولكن هيهات هيهات المعاول الجهل في أيدي الجهلاء بقيادة «أبي جهل» أن تهدم ما بناه الشباب المسلم.

  • ثالثًا: فترة ما بعد إعلان التشريعات الإسلامية ۱۹۸۳-١٩٨٥م:

في الأيام الأولى لتطبيق الشريعة الإسلامية حوكم شقيق الجاسوس «عمر الطيب» رئيس جهاز أمن الدولة المنحل على سرقات مالية واختلاسات قام بها، ولم يتأثر القاضي بقرابة المتهم لنائب رئيس الجمهورية، فازداد الحقد القديم الكامن في نفس «عمر الطيب» على القاضي وعلى القانون الذي حوكم به أخوه، وعلى الإسلام والإسلاميين الذين لم يراعوا أماكن الرجال ومناصبهم وصلاتهم الخاصة!!

 بعد ذلك بأيام تدخل نائب رئيس الجهاز الأمني في قضية أخرى مماثلة ليؤثر في مجرى العدالة، فرفض القاضي الوساطة ورفع الأمر إلى «الرئيس»! فغضب «الرئيس» -مؤقتًا– وفصل نائب رئيس الجهاز لأيام، وفصل معه «ابن العلقمي» -بهاء الدين- وما هي إلا أيام حتى انكشفت نوايا «النميري» فرد المناصب إلى أصحابها وجاء مرة أخرى بنائب رئيس الجهاز وابن العلقمي ورد «الوسام» إلى صديقه القديم «مأمون أبو زيد» وأعلن الحرب ضد الإسلاميين والقانون الإسلامي الذي أعلنه بنفسه - وكان لابد له من عمل ذلك، إذ إن الأمور بدأت تسير عكس ما توقع، وإن العقد بدأ في الانقلاب وطالما أن الاتهام والحساب والاستدعاء من قبل القضاء بدأ يتوجه الى بطانته وكبار أعوانه فلا بد أن دوره آت لا محالة...

ومما زاد الأمر سوءًا هو استدعاء نائبه العام «الرشيد أبكر» للإدلاء بأقواله والتحقيق معه في قضية فساد كبيرة خطيرة، وأن نائبه الأول ورئيس جهازه الأمني متورط إلى أذنيه في نفس القضية مما جعل التدخل ضروريًا وكان لا بد من حسم الأمر لصالح الثورة والبطانة وليكن ما يكون من أمر الإسلام والإسلاميين.

-وبعد إعلان التشريعات مباشرة بدأ الترابي حملته القوية العنيفة لضرورة رد الأموال العامة ومحاسبة كل من سولت له نفسه أن يبني من حرام أو يقتات من حرام، أو يكنز من حرام، وصار يردد في كل مكان ويدعو بوجوب إجازة قانون: «من أين لك هذا؟»، وعمل جاهدًا لإيجاد هذا القانون وتكوين لجانه وتحديد متهميه، قطعًا لدابر الفساد، وردًا للحقوق إلى أهلها، وصدقًا مع الله في التوجه المعلن من قبل الحكومة وعملًا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم لأسامة بن زيد حبه وابن حبه: «والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها.».

ولكن كان من الصعب إجازة مثل هذا القانون إذ إنه يعني سجن وتجريد وتشريد كل أرکان النظام الحاكم، إلا أن الترابي كان جادًا ومصرًا في مسيرته على تحقيق مثل هذا المكسب العادل للإسلام، وكانت أحاديثه العامة ومحاضراته ولقاءاته مع الصحف بمختلف اتجاهاتها لا تخلو من تناول هذا الموضوع والتطرق لأهميته.

-ولم يكتف بهذا بل أخذ يجمع القيادات الفكرية والعسكرية والتنفيذية والحكومية وعلى رأسهم «رئيس الجمهورية» في «المنتدى الفكري» -بواد مدني- ويبدأ في التحدث إليهم عن الآفاق الإسلامية وهياكل الدولة المسلمة، ورأي الدين الواضح في الفساد والمحسوبية، وأهمية الضمير في البناء الاقتصادي والاجتماعي، ووجوب الشورى الفعلية كما جاء بها الإسلام وما يتطلبه ذلك من تقليص للسلطات الدستورية لرئيس الجمهورية، وكان «الرئيس» من بين الجالسين كعامة المدعوين يشير عليه الترابي بإصبعه في أثناء حديثه موجهًا حينًا ومرشدًا ومعنفًا أحيانًا - انظر التسجيل الكامل لوقائع الندوة بمدتي فيديو رقم ۱۸۲/ ت.

وكان مثل هذا التصرف من الشيخ الترابي رصيدًا لتوسيع الهوة بينه وبين النظام، وسببًا لزيادة الجفاء بينه وبين «الرئيس»... ولكن طالما أن الأمر من أجل الدعوة لله ومن أجل الإسلام ولوجه الله فلا ينبغي أن يخشى في قول الحق لومة لائم، مع العلم بأن غضب «الرئيس» مهما كان لا يساوي شيئًا بجانب غضب الله العلي الكبير إن لم يخلص العبد له في توجهه.

 أو ليس في كل ذلك الدليل الكافي والقول الفصل على أن الإسلام والإسلاميين في السودان ما خضعوا أبدًا لأهواء أحد وأنهم ظلوا يواصلون مسيرتهم وفق ما تملي أهدافهم وميثاقهم مع الله؟!

-وبعد مضي عام على تطبيق الشريعة، وكان المؤتمر الإسلامي الأول، والمظاهرة المليونية التأييدية لأحكام الله، وكان التخطيط والعبقرية الإسلامية.. وامتلأت الأجواء بهتاف الحناجر «لا إله إلا الله» و«لا ولاء لغير الله»، وامتلأت حجر الفنادق وقاعات المؤتمر بالمسلمين وقادتهم من كل أرجاء المعمورة.. من السعودية والكويت ومصر وباكستان وأفغانستان وأوروبا وأمريكا.. ومن كل مكان.. وظهرت حكمة الوزير «يوسف الخليفة» الذي وجه الدعوات للمسلمين فقط لأن المؤتمر ليس مؤتمر ولاءات شخصية أو أفكار بشرية يسارية أو شيوعية أو موضوعية.. بارك الجميع الخطى، وفرح المسلمون لما حققه الله للسودان وطالبوا بالسير قدمًا في طريق الله ووعدوا بالدعم المادي والمعنوي، وكانت النجاحات العظيمة التي أبانت للعالم أجمع عظمة الإسلام والإسلاميين ومدى تلاحمهم في كل أرجاء المعمورة وإن اختلفت الألسن والألوان والأجناس..

وخرج «الرئيس» ليرى الجماهير التي تهتف لا لواء لغير الله والتي اكتفت بذلك دون الالتفات إليه.. ما لهم يرفعون المصاحف والألواح دون صور الرئيس وميثاقه؟! ما لهم لم يشيدوا به ويهتفوا بالولاء إليه؟! وما لهم تناسوه وجهلوه فأصبح فردًا عاديًا وسط هذه الجموع؟! فكانت القشة التي قصمت ظهر البعير!!

وكان الغضب والثورة والتصريح الفوري بعدم نجاح المؤتمر وتجاوزه لحدود اللياقة والأدب!! وانبرت أجهزة الإعلام الناعقة بالذم والتشهير بالإسلام وسلوك الإسلاميين في المؤتمر والذي ما تجاوز الترحيب والإرشاد والتوجيه والإصرار على النجاح.

وتمضي الأيام، فيعلن التغيير الوزاري ويبعد الإسلاميون - محمد عبد الرحمن - يسن الإمام- ويوسف الخليفة وزير الشئون الدينية- وينصب أبو القاسم حاكمًا وموجهًا وراعيًا للشباب ونشاطاتهم لإجهاض التجربة الشبابية والنشاط الإسلامي عند شباب البناء ونهضة المرأة كما ذكرنا.

وتقطع شعرة معاوية، وتتسارع الأصوات في العد التنازلي لتطبيق الشرع، وتتدخل أمريكا لتبتاع الضمائر ولتضرب الإسلاميين.. وتأتي مؤامرة «الفلاشا» فيقبل «الرئيس» وبطانته العرض المغري، فيضحي بدينه وعلاقاته الإسلامية والعربية وبأبناء جنسه وبلده ودينه فيوقع على استلام «الشيك» وعلى القبول بتهجير وترحيل ونقل «الفلاشا» وعلى عدم الممانعة بضرب «الإسلاميين» وفي عقد واحد، ومع وجوه واحدة، ومع أهل ملة واحدة.. فليحقق المحققون، وليفتح الفاتحون ملفات القضية وأي قضية شاءوا، فلن يجدوا الصفقة إلا ما ذكرنا... وما المعادلة إلا هكذا: نقل الفلاشا + ضرب الإسلام والإسلاميين - حفنة من الدولارات من اليهود في جيوب حفنة من سدنة النظام المايوي المنهار..

إبراهيم الخضر الحسن سالم

 الصحافة - الخرطوم - السودان

الرابط المختصر :

موضوعات متعلقة

مشاهدة الكل

مع الصحافة في كل مكان

نشر في العدد 1

904

الثلاثاء 17-مارس-1970

حذار من لعنة الأجيال

نشر في العدد 9

41

الثلاثاء 12-مايو-1970

كيف يسَيطر اليهَود عَلى أميركا؟

نشر في العدد 3

52

الثلاثاء 31-مارس-1970