; مقاصد الشريعة وتحرير الإنسانية | مجلة المجتمع

العنوان مقاصد الشريعة وتحرير الإنسانية

الكاتب د. إبراهيم البيومي غانم

تاريخ النشر السبت 14-مارس-2009

مشاهدات 24

نشر في العدد 1843

نشر في الصفحة 66

السبت 14-مارس-2009

الحرية هي النواة الصلبة لبناء فكرة المجال العام في الاجتماع السياسي الإسلامي والحرية المقصودة هنا هي التي تبدأ بإقرار كرامة الإنسان، وتصبح مرادفة لاكتمال إنسانيته، وهي بهذا المعنى تشكل جوهر المقاصد العامة للشريعة. وفي القرآن الكريم تأكيد هذا المعنى، صحيح أنه لم يرد لفظ الحرية مباشرة في القرآن الكريم، ولكن وردت مشتقات مثل: تحرير، ومحرر، والحر. بل يفهم من آيات القرآن أن الحرية ذات أولوية على ما عداها من القيم والحقوق التي يجب أن تكون موضع احترام ورعاية.

فقد ورد التحذير من الفتنة - وهي تعنى سلب الحرية في سياق مقارن مع القتل»، وهو يعنى سلب الحياة. قال تعالي: ﴿ وَٱلۡفِتۡنَةُ أَشَدُّ مِنَ ٱلۡقَتۡلِۚ ﴾(البقرة :۱۹۱)، وقال تعالى: ﴿ وَٱلۡفِتۡنَةُ أَكۡبَرُ مِنَ ٱلۡقَتۡلِۗ ﴾( البقرة :۲۱۷)، أي أن حياة الإنسان وهو مسلوب الحرية، عاجز عن الاختيار بمحض إرادته، تكون أكبر ضرراً وأشد خطراً من القتل الذي يسلب هذا الإنسان حياته ويلحقه بالموتى أو أنه لا قيمة لحياة العبودية، وفقدان الإرادة، وربما اقتربت بصاحبها من العدم -معنويا - رغم أنه على قيد الحياة. 

من هذا المنظور، تتجلى قيمة الحرية ومركزيتها في الرؤية الإسلامية؛ ولهذا السبب نفسه حض الإسلام على تحرير الإنسان من كل القيود التي تحد من حريته، ومنها قيود التقليد «للآباء أو للسابقين»، وقيود الجهل والخرافات والأهواء. 

لا ترد قيمة الحرية في المنظور الإسلامي منفردة بذاتها. وإنما ترد دوما مقرونة بمنظومة القيم العليا التي تشكل الوجدان العام، وترسم معالم الوجود الاجتماعي والسياسي، وفي مقدمتها العدالة التي تعطي كل ذي حق حقه، والمساواة التي تقرر أن جميع بني آدم من أصل واحد، وأن اتحادهم في الأصل كاف للتسوية بينهم في الحقوق والواجبات دون أدنى تمييز بسبب اللون، أو الجنس أو اللغة أو العرق، أو الدين، أو المذهب ولكن لا معنى للعدالة، ولا للمساوة بين ذوات غير حرة، أو لا تشعر ولا تعي أنها حرة، وبدون ذلك لا ينطلق المجال العام، إلى الوجود الاجتماعي؛ ولهذا أنفق الرسول قرابة ثلاثة عشر عاماً، وهي الفترة التي قضاها في مكة، في إرساء العقيدة والتوحيد والإيمان في نفوس المسلمين، وكانت هي المرحلة التي يمكن أن تسمى مرحلة بناء الذات الحرة الواعية العزيزة بالله، وهي الذات الضرورية لتحمل تبعات القيام بأعباء تأسيس الأمة.. وهي أيضاً الذات الحرة الجديرة بتحمل الواجبات والتمتع بالحقوق، وتكون لديها المقدرة على المطالبة بالعدالة والدفاع عنها، ومراعاة مبدأ المساواة، ورفض الاستعلاء على الغير.

الحرية التي جاء بها الإسلام غير قابلة للنقصان والمجال العام الذي يتأسس عليها هو علامة الازدهار الحضاري، ذلك لأن هناك حقوقاً إذا أصابها النقص فإنها لن تؤثر على إنسانية الإنسان لأنها حقوق خارجية تعاقدية كحق الملكية، أما حق الحرية فأي مساس به يزلزل إنسانية الإنسان؛ لأن الحرية نابعة من الداخل، وأي إضرار بها يفسد تعبير الإنسان عن ذاته والإنسان لا يكتمل إلا بالتعبير عن فكره، والتطور الروحي غير ممكن دون اتصال حر بالآخرين، وتبادل الفكر، فلا يجوز حذفه بحجة تصحيحه، وهذا هو الجوهر الأصيل الذي جاءت به رسالة الإسلام، إنه بكلمة واحدة الحرية ونجد في آراء واجتهادات علماء السلف الكبار من أمثال الإمام أبي حنيفة ما يدل على إدراكهم العميق للحرية باعتبارها جوهر الرسالة الإسلامية إلى الإنسانية كلها فمن غير الجائز عند أبي حنيفة الحجر على السفيه، ويعلل ذلك بأن الحجر إهدار الآدمية هذا السفيه ويقول إن الحجر عليه إلحاق له بالبهائم، والضرر الإنساني الذي يترتب نتيجة الحجر عليه أكبر بكثير من الضرر الذي يترتب على سوء تصرفه في أمواله، ولا يجوز دفع الضرر الأقل بضرر أكبر منه.

عندما يفقد الإنسان حريته، أو يشعر أنها مهددة تهديداً لا قبل له بدفعه والنجاة منه، فإن أول ما يفعله هو أن ينسحب من المجال العام، وينكفي على ذاته، أو قد يلتحق بجماعة السلطان ويصبح أداة من أدواته في ممارسة البطش والتنكيل بالآخرين وفي الحالين يفقد المجال العام جزءاً من حيزه؛ لأن هذا المجال لا ينشأ ولا يتكون إلا بمجموع ذوات إنسانية حرة تتشارك هموم الجماعة وتسعى لتحقيق مصالحها ، والدفاع عنها عندما تتعرض للتهديد، وفي المقابل تكسب السلطة الطاغية ذلك الجزء المفقود من المجال العام؛ لأنه فقد حريته. 

إن فقد الحرية هو أحد أهم أسباب انحطاط المجتمعات الإسلامية، وعلة أساسية من علل انحسار المجال العام، وسيطرة قلة محتكرة للسلطة والثروة عليه.

الرابط المختصر :