العنوان الطريق إلى فِكر إسلامي مُعاصِر
الكاتب مجلة المجتمع
تاريخ النشر الثلاثاء 19-أكتوبر-1976
مشاهدات 13
نشر في العدد 321
نشر في الصفحة 12
الثلاثاء 19-أكتوبر-1976
عَلى هامش مؤتمر الفقه الإسلامي بالرياض
منذ أن أطلقت تلك الشائعة المأساوية بقفل باب الاجتهاد، والفكر الإسلامي لا يزال يعاني من أسر معنوي لم ينطلق منه إلى سابق آفاقه الرحبة حتى الآن، وحتى لا تكون الصورة التي انطلقنا منها قاتمة بشكل يجافي الحقيقة، فلا بد أن ننوه ببعض الجهود الفدائية التي خرقت الطابع العام، وقدمت إسهامًا ملموسًا في ميدان البحث العلمي والعمل الفكري الإسلامي، يشرف الجيل المسلم المعاصر ويؤكد إضافات قيمة في مسيرة الفكر الإسلامي، التي يجب أن تظل خالدة حتى يبقى الإسلام هو خاتم الأديان إلى يوم القيامة، وجدير بقيادة البشرية في كل عصر وزمان في طليعة هذه الجهود، على سبيل الاستدلال أعمال الشيخ أبو زهرة وأبو الأعلى المودوي، وسيد ومحمد قطب وبن نبي وعبد القادر عودة، ووحيد الدین خان وعبد الله دراز ومحمد إقبال وغيرهم، كما أن الاهتمام بدراسة الفكر الإسلامي والإيمان به، قد لاقی رواجًا بين الأجيال المثقفة الشابة التي يبشر نشاطها بنهضة ثقافية واعدة.
لكن تبقى الحقيقة التاريخية، وهي أن كل هذه الجهود لم تقدم إضافات حقيقية للمكتبة الإسلامية، فيما عدا القلة التي أشرنا إليها. ولا شك أن الفكر الإسلامي المعاصر لم يتمكن بعد من استيعاب حاجة الأمة الإسلامية في التشريع والتخطيط والثقافة والتربية، ولا تزال المسافة بعيدة بينه وبين الفكر الوافد الذي سبق إلى طرح الحلول والأفكار لمعظم المشكلات الحياتية والفلسفية، وهنا لا بد أن نشير إلى خطورة هذا الواقع، إذ إن عامة الناس كثيرًا ما تحمل الإسلام نتيجة قصور المسلمين في ميدان الفكر والتشريع، فهم يجدون البحوث الميسرة في كل شأن من شئون الحياة، قد أنجزها فكر الحضارة الغربية وجعلها في متناول أيديهم، في حين لا يجدون الحلول والتشريعات الإسلامية، ولا يجدون الدراسات القائمة على أصول الدين والمنبثقة من العقيدة الإسلامية، بل يجدون صراخًا مستمرًا من الوعاظ يطالبهم بالعودة إلى نصوص القرآن، التي لا يفقهون كيف يطبقونها على مشكلاتهم المعقدة الماثلة، فينتهون إلى النتيجة المؤسفة وهي الكفر بقدرة الإسلام على حل مشكلاتهم المعاصرة، ومعالجة شئون السياسة والاقتصاد والتربية والقانون وغيرها من مسائل الحياة.
هذه هي النتيجة المؤسفة المؤكدة لغياب الفقه الإسلامي، والاجتهاد المتواصل للتشريع للأمة حتى تمارس حياتها في كل مجالاتها، وهي على هدى وبصيرة ملتزمة بشرع الله وحدوده، ومتمسكة بأهدابه.
وهذه هي الأسباب الحقيقية لأزمة المسلمين المعاصرة، وسبب الابتعاد عن حكم الشريعة والالتزام بنظمها وقوانينها.
مطَبات تاريخيَة
من المؤسف حقًا أن الدعوة إلى قفل باب الاجتهاد، صادفت طورًا من أطوار التاريخ الإسلامي تفشت فيه الانهزامية، وتميز بالانحطاط والتخلف، كما أن الفقه الإسلامي شهد تراجعًا في ذلك الوقت، وغلب عليه الجمود والتقليد والمجادلة في التفاصيل والفروع.. فلاقت هذه الدعوى المأساوية رواجًا وقبولًا لدى الجمهور، إشفاقًا على الشريعة من المتعاملين، وهروبًا من مسؤولية العمل الفكري في نفس الوقت.
ثم أعقب ذلك مجيء الاستعمار الأجنبي، الذي أدخل أنماطًا جديدة للحياة في العالم الإسلامي، وأدخل معها تشريعاتها، ثم قام بتنشئة الجيل الجديد على هذا النمط الغربي، وزوده من الثقافة والعلم والتشريع بما يتلائم وهذا النمط، وبما أن فترة الوجود الاستعماري قد امتدت في بلادنا، فقد تبدلت إطارات الحياة وإطارات التعامل من حيث الحكم والإدارة، والمؤسسات التربوية والتعليمية والنظم والعادات الاجتماعية، وهكذا تبدل واقع الحياة والمجتمع.. فيما بقي تراث الفقه الإسلامي على ما كان عليه في عصور سالفة، وتوقف الاجتهاد على أصول الشريعة الإسلامية، في حين أصبحت التشريعات تأتي جاهزة من الغرب، وتتلقفها العقليات التي تربت على نمط التفكير الغربي، وورثت الاستعمار في إدارة المؤسسات التي أقامها على نفس النسق.
***
هكذا استمر الوضع في مرحلة ما بعد الاستقلال، وقد شهدت هذه المرحلة ظهور مفكرين أبطال، تصدوا لهذه الهزيمة المنكرة في عزيمة باسلة وجهاد صبور.
لقد حارب محمد بن عبد الوهاب ورشيد رضا ومالك بن نبي، جميع أشكال الجهل والانحرافات التي بسطت ضلالها على عقول المسلمين، وعملوا على تنقية الفكر الإسلامي من شوائب الدجل والشطحات الصوفية والتفكير الاستسلامي، وردوه إلى أصوله القديمة في الكتاب والسنة ومذاهب السلف، وتصدى سيد ومحمد قطب والندوي والمودودي ومحمد الخضر حسين والسباعي، للغزو الفكري الاستعماري، فدافعوا عن الإسلام وأعادوا الثقة للمسلمين في أنفسهم وفي دينهم وفكرهم، وفضحوا دعاوى الفكر الغربي المعاصر، وهالة العصمة التي أضفاها عليه تلامذة الاستعمار، مع ذلك فإننا نسجل في قلق عميق أن الفكر الإسلامي بعد هؤلاء العمالقة، فقد شيئًا من حيويته، وذلك أن الذين تلقفوا الراية من بعدهم لم يدركوا طبيعة دورهم، فلم ينقلوا المعركة إلى طور جديد، وإنما استمروا في نفس الدور- وهو الدفاع عن صلاحية الإسلام والهجوم على الثقافة الاستعمارية، دون أن ينجزوا عملًا إيجابيًا في مجال الفكر الإسلامي.
مع أن محمد قطب كان قد أعلن مرارًا أن مرحلة كتاب شبهات حول الإسلام قد انقضت، وـن علينا أن نبرز إيجابيات الفكر الإسلامي وننتقل إلى مرحلة جديدة، وكانت ثمرة هذا الانعطاف كتابيه: منهج الفن الإسلامي، ومنهج التربية الإسلامية، اللذين يعتبران بحق إسهامًا جادًا وعطاءً حقيقيًا، وإضافة أصيلة ومذهبًا يتبع في مسار الفقه الإسلامي المعاصر.
إن أهميتهما تنبع من انصرافهما إلى المهام الأساسية للفكر الإسلامي الحديث، بدلًا عن معالجة قضايا وهمية، أو تكرار الجدل في مسائل كانت من مهام التراث، وبقدر مسؤوليته، ولا تقع ضمن واجبات الفقه المعاصر.
هذا يقودنا إلى إجراء تقييم شامل لحركة الفكر الإسلامي المعاصر، إنها عملية مراجعة لا بد منها لتصحيح منهجه وتحديد مسؤولياته ومهامه.
إن السوق الثقافي يعج بالكثير من الأعمال الثقافية التي أنتجتها الأقلام الإسلامية الشابة.. لكن قيمتها العلمية لا توازي حجمها الكمي.
فمعظمها إما أنها رسائل وعظية، أو بقية متأخرة من عمل المقلدين لا زالت تحوم حول قضايا الفقه الإسلامي في عصره الأول، ومن ثم فهي جهود، على معاصرتها، تراثية لا تسهم في معركة الفقه الإسلامي الجديدة..
لقد حددت بعض أعمال مفكرينا ملامح الفكر الإسلامي الجديد ومنهجه المطلوب، وحددت مهامه الأساسية للمرحلة القادمة، فمثلًا كان اصطلاح الفلسفة الإسلامية يعني لدى عامة المشتغلين بالثقافة- تلك المناقشات التي نهض بها بعض المسلمين من أمثال الكندي وابن سينا وابن رشد والفارابي، والتي قامت أساسًا على قضايا الفلسفة الإغريقية، مهما قيل عن إضافات إسلامية عليها، ولا شك أن سيد قطب بإبرازه لجوهر التصور الإسلامي السليم، وقد بلور الفلسفة الإسلامية الحقيقية، ووضع حدًا فاصلًا بين قضاياها التي نزل القرآن الكريم ليعالجها، وبين تهويمات ما يسمى بالفلسفة الإسلامية الدائرة حول الفلسفة والمنطق الإغريقي.
الأستاذ المودودي، الذي عني بمعالجة قضايا المسلم المعاصر على ضوء الإسلام- أسهم ولا شك في تحديد مهام الفقه الإسلامي المعاصر، ومنهجه ومحاضراته التي نشرت منذ الأربعينات، وعالجت شكل الدولة الإسلامية الحديثة وإطارها الدستوري والقانوني، وألقت ضوءًا كاشفًا على أسس التربية الإسلامية... هي خير مثال في هذا الخصوص.
الظاهرة القرآنية لمالك بن نبي وظلال القرآن مع قرآنيات سيد قطب الأخرى و -قبسات من الرسول- لا شك تكشف عن المنهج الجديد لمعالجة علوم القرآن والحديث، بشكل يلبي حاجة الإنسان المعاصر، فليس في وسعنا أن نباري السلف فيما بلغوه من استقصاء وفق منهجهم وعصرهم، وسنقع لا محالة في مأزق التقليد والتكرار والجمود، ولكن الرؤية العصرية وتحسس حاجة الحياة المعاصرة وإنسانها، تلك هي الإضافة المرجوة من حركة الفكر والاجتهاد في عصرنا، ذلك أن القرآن نزل لعصرنا مثلما نزل لهداية الأجيال السابقة. تقنين التشريع الإسلامي، كما ظهر في أعمال عبد القادر عودة «التشريع الجنائي»، ومصطفى الزرقا «الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد» و«المجلة العدلية»، و«خيار الدستور الإسلامي الكامل»، كما ورد في مشروع اللجنة الفنية للدستور السودانية عام ١٩٦٧، وما أنجزه المستشار علي علي منصور من التشريعات الليبية.. كل هذا يدخل في نطاق مسؤوليات الفكر الإسلامي المعاصر.
إن النظرية التي طرحها الأستاذ سيد قطب في مقالة «في التاريخ فكرة ومنهاج» ترسم بوضوح خطوط المنهج العلمي الجديد في كتابة السيرة والتاريخ الإسلامي، ويعتبر بحث الدكتور عماد الدين خليل «منهج الانقلاب الإسلامي في خلافة عمر بن عبد العزيز» تطبيقًا ماهرًا لهذه النظرية، أخرج كتابة السيرة عن خطها التقليدي الذي لم يقدم جديدًا.. إلى إنجاز جعل المبادئ الكامنة في أحداث التاريخ الإسلامي، تتداعى على الواقع الإسلامي المعاصر، لتحدث أثرها في ضمير الأمة وحسها الفكري، ويندرج في هذا الباب محاولات إعادة كتابة التاريخ الإسلامي وتصحيح ما لحق به من تزوير وتزييف.
وحتى نستكمل الأسس التي ساهم هؤلاء المفكرون في إرسائها لنهضة الفكر الإسلامي وبعثه، علينا أن نتصور واقع العالم الإسلامي المعاصر والجهد المطلوب للارتقاء به إلى مرتبة الحضارة الإسلامية اللائقة، علينا أن نتصور قيام المجتمع الإسلامي في دنيانا المعاصرة.. ثم ننظر فيما تحتاجه بنيته الأساسية من القمة إلى القاعدة، الحكم والإدارة والنهضة التشريعية، والإصلاح التعليمي والتنمية الاقتصادية، والثقافة وترشيد العلوم الطبيعية، حتى لا تصطدم مع المعرفة الدينية اليقينية، وتفتعل التناقض مع العقائــــــــــد الدينية. وأعتقد أن مالك بن نبي انطلق من هذا التصور في محاولته لاستنتاج شروط النهضة.
ظواهِر مبَشرَة
لقد تكون مؤتمر البحوث الإسلامية في القاهرة ليجدد حركة الاجتهاد الفقهي، وينهض باحتياجات المسلمين الفكرية تجاه المسائل المستجدة في هذا العصر، وربما كانت تلك أول محاولة منظمة طورت عملية الاجتهاد من المبادرة الفردية إلى عمل المؤسسة، ولا شك أن مؤتمر البحوث قد أنجز الكثير وقدم خدمات جليلة، إلا أنه في اعتقادي لم يملأ الفراغ تمامًا، وربما كان السبب كامنًا في مشكلة عميقة خلفها الاستعمار، وهي ثنائية التعليم التي أفرزت نوعين من المثقفين، هم حملة الثقافة الإسلامية المقتصرة على التراث، وجيل الثقافة الغربية الذي نشأ غريبًا عن الثقافة الأصلية ومصادر التفكير الإسلامي.
إن طائفة المثقفين الذين التزموا بالتفكير الإسلامي، واجتهدوا في نفس الوقت أن يحيطوا بآفاق الفكر المعاصر والثقافة الجديدة، هم وحدهم الذين تمكنوا من الإسهام في حل الأزمة التي تواجه الفقه الإسلامي المعاصر، وهؤلاء ولا شك عصاميون بكل معنى الكلمة، لأنهم اعتمدوا على جهودهم، فليس هناك مؤسسة تعليمية واحدة تتيح تكامل المعرفة، فجميع المؤسسات العلمية والتعليمية في العالم الإسلامي، سارت على منهج السياسة الاستعمارية، فأفرزت ثقافة دينية معزولة عن الحياة، وثقافة عصرية إيجابية معزولة عن الدين. إن المحاولة الوحيدة التي هدفت إلى إنشاء مؤسسة معافاة من هذه الثنائية، كانت تجربة الجامعة الإسلامية بأم درمان - السودان، ولكن المؤامرات وأدتها في طفولتها، وإن النموذج الترقيعي الذي أدخل على الأزهر وبعض المؤسسات الأخرى، لم يفعل سوى أن نقل الثنائية من جيل المثقفين إلى عقل المثقف الواحد.
المحاولة الثانية والتي حركت الآمال بما حملته من بشائر واعدة، هي المؤتمرات العلمية المختلفة التي عقدت مؤخرًا لبحث مسائل غاية في الحيوية والأهمية، مثل مؤتمر الاقتصاد الإسلامي في جدة، ومؤتمر التضامن الإسلامي للعلوم والتكنولوجيا في الرياض، ومؤتمر السيرة النبوية في كراتشي، ومهرجان الفكر الإسلامي في لندن، ومؤتمر دراسة تطبيق التشريع الجنائي الإسلامي الذي دعت إليه جامعة الدول العربية في الرياض، ومؤتمر الفقه الإسلامي الذي دعت إليه جامعة محمد بن سعود الإسلامية في الرياض، ومؤتمر الإعلام الإسلامي الذي دعت إليه ندوة الشباب الإسلامي، كل هذه المؤتمرات بما توفر لها من تنظيم حديث ومن تخطيط، وبإشراف علمي، ومن مشاركين أكفاء جمعوا بين عمق الالتزام الإسلامي فكرًا وإيمانًا، وبين الإلمام بالعلوم الحديثة والحياة المعاصرة- فهي مرشحة لأن تكون منطلقًا لحركة البحث العلمي المعاصر في علوم الإسلام، لقد أتاحت هذه المؤتمرات فرصًا ذهبية لمفكري الإسلام الأعلام كي يجتمعوا على طاولة واحدة، ويقدموا جهدًا مشتركًا من خلاصة ثقافتهم في أخطر المسائل.
فلو نظمت هذه اللقاءات ونسقت، بحيث أمكن تحويلها إلى مؤسسة أو جامعة علمية عاملة، إذًا لاستطعنا استثمار طاقاتنا الفكرية والعلمية في عمل موجه وجاد.
الظاهرة الثالثة- هي الجهود الفكرية التي أملتها حاجات تطبيقية عملية، ولا شك أن هذا هو الطريق الطبيعي لحركة الفقه الإسلامي، فالدراسات التي لازمت عزم بعض الحكومات على تطبيق العقوبات الإسلامية، والدراسات التي أملتها نشأة بعض المؤسسات الإسلامية كبنك دبي الإسلامي، وتجربة بنوك التوفير في الريف المصري، وبيت المال الكويتي المتوقع إنشاؤه قريبًا، هذه لا شك تعتبر مساهمات حقيقية وعظيمة في التشريع الإسلامي.
ويهمنا في خاتمة المطاف أن نلفت النظر إلى الدور الفعال، الذي يمكن أن تلعبه بعض المؤسسات في دفع حركة الفكر الإسلامي الحديث، ومنها الصحافة الإسلامية التي أصبحت بحمد الله تتمتع بإمكانيات كافية، ومنها جامعاتنا التي فتحت أمام طلابها جميع فروع المعرفة، وفي إمكانها أن تشجع مجالات البحث العلمي في العلوم الإسلامية المختلفة، ولو من باب الدراسات المقارنة، فإذا استخدمنا كل هذه الإمكانات فبوسعنا أن نعيد للفقه الإسلامي حيويته وازدهاره واستمراره.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكلالإفراط والتشدد في القضايا الفرعية.. عبث لا يحقق مقاصد الدين
نشر في العدد 1764
88
السبت 11-أغسطس-2007
«تحرير الإسلام» على المستوى الشعبي والرسمي ضرورة لإنقاذ الأوطان وتوحيد الأمة
نشر في العدد 1766
81
السبت 25-أغسطس-2007