الثلاثاء 23-يناير-1979
• إن وسائل الإعلام الإلكترونية لا تملك قيمًا تخدمها، فهي مجرد أدوات تخضع لصناعها والمتحكمين فيها؛ لذلك فإن هذه الوسائل -كما يقول أحد علماء الإعلام- تعتمد في عملية تأثيرها في المجتمع على فئتين من الناس أساسًا: مصممي تلك الآلات (وهم المخترعون والمهندسون الذين يعملون في حقل تطوير الوسائل الإلكترونية للإعلام) والذين يتولون رسم سياسة الإعلام في المجتمع. إن هذه الوسائل إنما تنفذ (بدقة) ما يمليه عليها الإنسان من أفكار وخطط وبرامج وأهداف!
• ويبدو واضحًا للمطلع على ما يجري اليوم في حقل الإعلام أن هذه الوسائل تزداد خطورة في حياة المجتمعات المختلفة، وتتضاعف أهمية في مجال التأثير والتغيير والتطوير. كما يلاحظ الدارس أن هذه الوسائل المختلفة -نتيجة ارتباطها الوثيق بالإنسان عقيدة وفكرًا وأثرًا وتأثيرًا- تخضع للعقائد والقيم والنظريات التي يؤمن بها أولئك الذين يرسمون سياسة الإعلام وينفذون رسالته في المجتمع. ولذلك فإن من المنطق للباحث أو الدارس في مجال الإعلام أن يعي دائمًا هذه العلاقة المتفاعلة بين رسالة الإعلام في أي مكان وبين العقيدة أو النظرية التي يعتنقها الفرد أو الجماعة الذين يقومون بأداء تلك الرسالة وفقًا لما يؤمنون به من مبادئ وقيم.
* نظريات الإعلام:-
• في عالم الإعلام اليوم نظريات متعددة، ومذاهب متشعبة. لا يستطيع الدارس أن يتجاوز (الباعث العقيدي) وراء هذه النظريات دون دراسة وبحث، بل إن معظم هذه النظريات تنبع أساسًا -حتى في أسمائها- من المنبع العقيدي.
إن من أشهر النظريات الإعلامية اليوم أربع نظريات هي:
(1) نظرية السلطة.
(2) نظرية التحرر (الرأسمالية) (الغربية).
(3) نظرية المسؤولية الاجتماعية (الغربية).
(4) النظرية الشيوعية.
• نظرية السلطة تتسم بتملك السلطة لوسائل الإعلام المختلفة وتحكمها فيها، وعدم السماح بالصحف الفردية خوفًا من انفراد (القلة) بالرأي والتأثير نتيجة الهوى الشخصي والشهوة. ويقول (عامة الناس) غير قادر على التفرقة بين الحق والباطل وعلى التوصل إلى القرارات السليمة في مختلف الشؤون، وواجب السلطة هو القيام بهذه المهمة، ولذلك فليس لوسائل الإعلام مهمة يؤديها سوى تنفيذ ما تمليه السلطة عليها مقتنعة أن ذلك هو الأفضل والأصوب.
• أما نظرية التحرر - وهي مشتقة من النظرية الرأسمالية الغربية- فهي تقوم على عاملين: الأول (الحرية) المطلقة استنادًا إلى المبدأ الرأسمالي في تمجيد الفرد بحد ذاته والقول بأن هذا الفرد يملك القدرة على اتخاذ القرارات السليمة وتكوين الآراء الناضجة من خلال سماعه وقراءته وتأثره بمختلف الآراء المتناقضة والمتعارضة. ولذلك فإن هذه النظرية تقوم على مبدأ الامتلاك الشخصي لوسائل الإعلام دون تدخل من السلطة في ذلك. أما العامل الثاني فهو العامل (الاقتصادي) النفعي الذي يجعل الجانب الاقتصادي في العملية الإعلامية على رأس قائمة العوامل المؤثرة في الإعلام.
• وكرد فعل لنظرية التحرر في المجتمع الغربي - والأمريكي بخاصة- نشأت نظرية المسؤولية الاجتماعية. والحديث عن هذه النظرية ما زال حتى اليوم حديثًا نظريًّا صرفًا؛ إذ إن هذه النظرية لم تنزل إلى واقع العمل والتنفيذ حتى الآن! فهي مجرد مقترحات وضعتها لجنة غير رسمية من بعض علماء الإعلام والمهتمين بشؤون الإعلام سنة 1940م. وقوام هذه النظرية محاولة الجمع بين نظرية السلطة ونظرية التحرر فهي تحاول أن تربط المسؤولية الإعلامية بالمسؤولية الاجتماعية وأن تدمج بينهما، فالفرد ما يزال في رأي هذه الفئة -تبعًا للنظرية الرأسمالية التي تنبع عنها أيضًا- حرًا حرية مطلقة، ولكن وسائل الإعلام باعتبار أنها تخدم المجتمع فهي مسؤولة اجتماعيًّا وينبغي لها أن ترسم دورها من خلال هذه المسؤولية فإذا لم تستطع أن تؤدي دورها الاجتماعي فإن تدخل السلطة أمر لا بد منه لتقويم هذا الانحراف أو تصحيح مساره.
• أما النظرية الشيوعية فهي تنبني أساسًا على النظرية الشيوعية المادية الديالكتيكية. ومحور هذه النظرية (الصراع الطبقي) الذي ينتهي بالمجتمعات إلى المجتمع الشيوعي حيث الناس كلهم سواسية ولا دولة ولا ملكية فردية ... وما إلى ذلك.
والنظرية الشيوعية في الإعلام ترجع إلى (لينين) فهو أول من وضع أسس هذه النظرية التي تقوم على مبدأ «الالتزام الفكري (الحزبي)» فالإعلام -كما هو الحال بالنسبة للشيوعي في أي مجال -ملتزم التزامًا كليًّا بالفكر الماركسي- فكر الحزب الشيوعي- ولذلك فإن الحزب هو الذي يضع أطر وأهداف وبرامج الإعلام ويقوم بتنفيذها بنفسه؛ إذ إن المسؤولين عن وسائل الإعلام المختلفة هم أعضاء ملتزمون في الحزب الشيوعي إلى جانب مسؤوليتهم الإعلامية.
والفرق بين نظرية السلطة والنظرية الشيوعية هو أن الذين يؤمنون بنظرية السلطة لا يبنون نظريتهم على الأساس الماركسي الفكري كما هو الحال في النظرية الشيوعية.
* أين النظرية الإسلامية؟
* هذا السؤال يجب أن يطرح اليوم بإلحاح... وينبغي أن ينال العناية والاهتمام، ليس لمجرد أننا -نحن المسلمين- بحاجة إليه، بل لأن الحاجة إلى هذه النظرية هي (حاجة عالمية) تمامًا كما أن الإسلام هو حاجة عالمية دائمة متجددة.
ولا نشك أن النظرية الإسلامية في الإعلام ستكون متميزة عن هذه النظريات التي تتحكم في الإعلام العالمي اليوم؛ لأنها نظرية تنبع من عقيدة متميزة لها سماتها وخصائصها وتصوراتها المنفردة.
ولعل مثالًا واحدًا يعطينا (ضوءً) منيرًا لرؤية هذا التميز الذي نقوله.
• في النظريات الإعلامية اليوم عوامل متعددة. وأهم تلك العوامل التي تبلور تلك النظريات عامل (الحرية) ونظرة كل فئة من تلك الفئات إليها!
• في نظرية التحرر نلاحظ مفهوم الحرية منبثقًا من تأليه الفرد ورأي الفرد وحرية الفرد، ومطالبة ذلك الفرد بتحقيق ذاته ولو على حساب المجموع، وبذلك تتصادم حرية الفرد مع حرية المجموع ويقود ذلك إلى الفوضى الحضارية (التي نشاهدها اليوم في المجتمعات الغربية)، ويمكن أن نسمي هذا المفهوم للحرية (بالحرية الرأسمالية السائبة).
• وليس في نظرية المسؤولية الاجتماعية جديد ذو قيمة يمكن أن يجعلها متميزة عن نظرية التحرر؛ فهي في الأصل تنبع من النظرة الرأسمالية للحرية مع (تخفيف) في تلك الحرية الفردية وربطها بالمسؤولية الاجتماعية.
• وفي النظرية الشيوعية ينبثق مفهوم الحرية من سحق الفرد ورأي الفرد وحرية الفرد، والمطالبة بالانصهار الكلي في المجموع وتسخير الحرية الفردية لخدمة حرية المجموع -وفي الواقع الممارس لخدمة حرية الحزب الحاكم!- وهذا المفهوم للحرية يهدم دون شك خصيصة من الخصائص الأصيلة في الإنسان وهي الاستقلال ويمكن أن نسمي هذه الحرية بـ(الحرية الماركسية الملتزمة).
• أما في الإسلام - وفي النظرية الإسلامية للإعلام- فإن مفهوم الحرية يرتبط أساسًا بثلاثة عوامل:
العامل الأول: العبودية لله سبحانه وتعالى.
والعامل الثاني: الحرية الذاتية للفرد.
والعامل الثالث: مسؤولية الفرد تجاه المجتمع.
ولذلك فإن الإنسان في المفهوم الإسلامي حر حرية ذاتية مستقلة ولكنه في الوقت ذاته مكلف بخلافة الله في الأرض، ومسؤول مسؤولية اجتماعية. وبذلك يوائم الإسلام بين مصلحة الفرد ومصلحة المجموع في عقد واحد، ويحقق التوازن المفقود في النظريتين العالميتين: الرأسمالية والشيوعية. إن الإسلام يقدم للعالم مفهوم (الحرية المسؤولة) وهو مفهوم الوسط كالأمة الوسط حقيقة هذه الأمة.
وبهذا المفهوم للحرية يبني الإسلام نظريته للإعلام.
* * *
• إن هذا المثال الذي نطرحه اليوم هو مثال واحد فحسب لما يمكن أن يقوم به الباحثون المسلمون في مجال الإعلام من محاولات مدروسة لفهم مبادئ وأسس وتطبيقات النظرية الإسلامية للإعلام؛ أملًا في الوصول إلى استكمال الجوانب المتعددة لبلورة تلك النظرية وإخراجها إلى حيز الوجود للاسترشاد بها في رسم سياسة الإعلام الإسلامي، وللاهتداء بمعطياتها في الممارسة الواقعية لرسالة الإعلام في المجتمع، ثم لتقديم ثمراتها إلى العالم الذي يئن اليوم تحت وطأة النظريات والمبادئ المنهارة.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل