العنوان قطوف تربوية حول قصة بقرة بني إسرائيل «الحلقة الرابعة والأخيرة»- القيادة.. حركة وتطور ونماء
الكاتب حمدي شعيب
تاريخ النشر الثلاثاء 05-يوليو-1994
مشاهدات 12
نشر في العدد 1106
نشر في الصفحة 48
الثلاثاء 05-يوليو-1994
المسلم وحده هو الذي يملك رؤية شاملة لهذا الوجود الكبير، ويعلم أنه لا يعيش وحده، وأن هناك ظواهر سلوكية عامة تربطه بهذا الكون، تدل على وحدة الخلق، وتبرهن على وحدانية المصدر، وتعطيه شعورًا داخليًا دفاقًا بالأنس والألفة والود لجميع الموجودات.
المحور ظاهرة كونية:
ومن تلك الظواهر الكونية «ظاهرة المحور» وهي «ظاهرة الولاء، أو التبعية، أو الانتساب أو التلازم وخلاصتها دوران بعض الخلق في فلك خلق آخر مصطفى وأقوى منه، بحيث يكون هذا الأقوى مركزًا للدوران، ومحورًا أو بؤرة تتجمع حولها مخلوقات أخرى، ويكون مؤهلًا لأسر الأضعف وربطه به ومنعه من التفلت والاختيار، ففي بناء الكون لوحظ أنه يتكون من لبنات واللبنة الواحدة تتكون من نجمة ضخمة قوية تكون بؤرة أو مركزًا تتجمع حولها نجوم كثيرة أضعف منها على شكل مجرة، وأطلقوا على هذه المجموعة اسم العنقود النجمي وتقل كثافة النجوم المتجمعة كلما بعدت عن المركز، ثم تتلوه عناقيد أخرى مماثلة من جميع الجهات، كذلك في بناء الذرة المكونة لأي عنصر، حيث نجد أن النواة تتكون من بروتون واحد ويدور حوله عدد متغاير من الإلكترونات حسب نوع العنصر» «1».
ضرورة القيادة البشرية:
لهذا كان من الأهمية بمكان أن يوجد المحور الذي يدور حوله ومعه أي نوع من الخلائق، والمحور البشري ما هو إلا جزءًا من تلك الظاهرة الكونية، ومن هنا أدرك المسلم أن منهج رب العالمين لا يتحقق في الأرض إلا بتوفر ثلاثة مرتكزات رئيسية هي المنهج والقيادة والجنود، «فإنه غني عن البيان أن أي جماعة تريد أن تحقق هدفًا لا بد لها من منهج واضح، وقوم يعملون في حدود هذا المنهج، وأن يكون لهم قيادة». «2»
ماهيتها:
والمحور البشري أو القيادة «هي ذلك السلوك الذي يقوم به شاغل مركز الخلافة أثناء تفاعله مع غيره من أفراد الجماعة فهي عملية سلوكية، وتفاعل اجتماعي فيه نشاط موجه ومؤثر علوًا على كونه مركزًا وقوة، وقبل ذلك هي مسئولية، فالقيادة ليست مغنمًا يتمتع به القائد، ويتلذذ بعبارات الثناء فيه بل هي عناء وتبعية، وهي إدارة عمل بطريقة ناجحة تحقق النتائج وتدرأ المفاسد، فهي ظاهرة اجتماعية ذات نشاط هادف» «3».
وهي محور العمل، وترمومتر البذل والنشاط لأنها مصدر التوجيه، ومصدر الإشعاع العاطفي بين الأفراد، فهي قلب العمل، وأداة الانسجام والتناغم وطريق المناقلة وحزام الربط فوق أنها الرمز العاطفي الذي يملأ الحاجات النفسية للعاملين، وركن الاستناد الذي يسند المتعب ظهره إليه» «4».
دورها:
وإذا كان الحبيب صلى الله عليه وسلم قد ركز على أهمية وجود القيادة في عملية تنظيم أمور أي جماعة حتى ولو قامت بأمر هين يسير، وحتى ولو صغر عددها: «إذا خرج ثلاثة في سفر فيلؤمروا أحدهم» «5» فما بالك بسفر طويل وأعداد ضخام، وأحمال ثقال، وأهداف عظام لإحياء الأمة من موات، ولتحقيق وعد الله ورسوله بظهور الهدى ودين الحق على الدين كله؟!
ولهذا كانت توجيهات رواد التجديد الإسلامي المعاصر تترى حول خطورة دور القيادة، في الحركة الدعوية بهذا المنهج الفريد وخطورة علاقتها بالأفراد على قوة المجموعة على وجودها، فالقائد جزء من الدعوة ولا دعوة بغير قيادة، وعلى قدر الثقة المتبادلة بين القائد والجنود تكون قوة نظام الجماعة، وإحكام خططها، ونجاحها في الوصول إلى غايتها، وتغلبها على ما يعترضها من عقبات وصعاب فأولى لهم طاعة وقول معروف، ولها حق الوالد بالرابطة القلبية والأستاذ بالإفادة العلمية، والشيخ بالتربية الروحية، والقائد بحكم السياسة العامة للدعوة، ودعوتنا تجمع هذه المعاني جميعًا والثقة بالقيادة هي كل شيء في نجاح الدعوات» «6».
وفي مسيرة دعوة الإسلام الأولى، كان كل فريد يدرك دور القيادة، وأهمية الثقة بها في كل لحظة وفي كل حركة، ويبرز ذلك بقوة أثناء تعرض المسيرة لأي أمر حتى ولو كان من المشاكل الحياتية العادية، ولا يختلف في هذا التفاعل والثقة أي فرد سواء كان رجلًا أو امرأة أو غلامًا.
وتأمل تفاعل الأفراد مع القيادة، في لجوء «خويلة بنت ثعلبة»- رضي الله عنها- إليه صلى الله عليه وسلم لتجادله في أمر زوجها أوس بن الصامت عندما ظاهرها، ونزلت آيات «المجادلة» لتحل لها مشكلتها، وأيضًا في إسرار الغلام «زيد بن أرقم»- رضي الله عنه- إليه بأمر رأس النفاق «عبد الله بن أبي بن سلول» وزمرته وما قاله في حق الصحابة- رضوان الله عليهم، وتعرض الغلام لمحنة أنقذه منها وحي السماء في آيات خالدة تتلى إلى يوم القيامة وهي سورة «المنافقون»، وكذلك ما حدث من الغلام «عمير بن سعد»- رضي الله عنه- عندما شكى إلى الحبيب ما صدر من زوج أمه «الجلاس بن سويد» من سب الصحابة رضوان الله عليهم- بقول: إن كان محمد صادقًا فيما يدعيه من النبوة فنحن شر من الحمير، فنزلت آية سورة «التوبة»: ﴿يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا﴾ (التوبة: 74) «7» تخلد موقف الغلام، وليكون سببًا في هداية «الجلاس»- رضي الله عنه..
وعلى الجانب الآخر كان تفاعل القيادة مع الأفراد وثقتها بهم، وتأمل: «بينما رجل يسوق بقرة له قد حمل عليها، فالتفتت إليه البقرة فقال: إني لم أخلق لهذا، ولكني خلقت للحرث فقال الناس: سبحان الله تعجبًا وفزعًا أبقرة تتكلم؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني أؤمن به وأبو بكر وعمره» «8»، وتأمل بينا راع في غنمه عدا عليه الذئب فأخذ منها شاة، فطلبه الراعي حتى استنقذها منه، فالتفت إليه الذئب فقال له: من لها يوم السبع- أي عند الفتن حين يتركها الناس هملا نهبًا للسباع- يوم ليس لها راع غيري؟، فقال الناس: سبحان الله فقال رسول الله ﷺ: «فإني أؤمن بذلك أنا وأبو بكر وعمر» «9»، وتأمل رأي عمر- رضي الله عنه- في عمير بن سعد- رضي الله عنه- عمير بن سعد نسيج وحده، ولكم وددت أن لي رجالًا مثل عمير بن سعد لأستعين بهم في أعمال المسلمين.
سماتها:
وحتى تتم هذه المهمة لا بد من وجود سمات وصفات من خلالها يتم اختيار القادة لمراكز التوجيه، وقد عددها الشيخ جاسم المهلهل في كتابه الطيب «القيادة» في حوالي أربع وعشرين سمة تبدأ من العلم والقوة والقدرة على تجميع الناس، وتمثله للقدوة في الأقوال والأفعال، إلى الجدية واللين وتنتهي بتطبيق الأسس العلمية في التعامل مع الآخرين «10».
وفي قصة بقرة بني إسرائيل كانت هناك بعض الملامح التربوية حول ما حوته من بعض سمات للقيادة الراشدة:
۱- الربانية: وهي الائتمار بأمر الله وحده، فتكون ربانية المصدر، ربانية الهدف والغاية ربانية الوسائل، وهذا تجده واضحًا في قول موسى- عليه السلام- مبلغًا عنه سبحانه: إن الله يأمركم، وفي قوله ثلاث مرات: «إنه يقول».
2 - الأمانة والصدق وهي دقة التبليغ لأوامره سبحانه، وهذا يتضح جليًا في قول موسى- عليه السلام- مع كل أمر: «إنه يقول».
فهي الأمانة والصدق في التبليغ.
3- الحلم: وهو الأناة، وتأمل ردود موسى عليه السلام- وهو في موقف المبتلى بالأتباع المنحرفين السفهاء: ﴿قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ (البقرة: 67) ثم في بقية ردوده على يهود وهم يتمحلون المعاذير للهروب من الأمر.
4- الصبر: وهو حبس النفس عن الجزع وتتضح هذه الصفة في سلوك موسى- عليه السلام- وهو يحاول أن يعبر ببني إسرائيل عراقيل لجاجتهم وجد لهم حتى ينفذوا الأمر الإلهي، ويجيبهم، كما ينبغي أن يجيب المعلم المربي من يبتليه الله بهم من السفهاء المنحرفين.
رؤية وتوضيح:
وعندما نتأمل ما لاحظه الأستاذ: سيد قطب- رحمه الله- وهو يبين اللون الثالث من ألوان التصوير في القصص القرآن، وهو «رسم الشخصيات وإبرازها كنماذج إنسانية» فمثلًا كانت شخصية إبراهيم- عليه السلام- نموذجًا للهدوء والتسامح والحلم، ويوسف عليه السلام- نموذجًا للرجل الواعي الحصيف، وآدم- عليه السلام- نموذجًا للإنسان بكل مقوماته، أما موسى- عليه السلام- كنموذج إنسان بشري في مراحل حياته المختلفة قبل وبعد البعثة، فقد وجد أنه «نموذج للزعيم المندفع العصبي المزاج، فها هو ذا قد ربي في قصر فرعون، وتحت سمعه وبصره، وأصبح فتى قويًا، وهنا يبدو التعصب القومي، كما يبدو الانفعال العصبي، ﴿فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ﴾ (القصص: 15)، وأصبح في المدينة خائفًا يترقب، ثم يهم بقتل رجل آخر، وينسيه التعصب والاندفاع استغفاره وندمه وخوفه وترقبه.
وفي فترة ثانية من حياته بعد عشر سنوات، ينادي من جانب الطور الأيمن أن ألق عصاك، فألقاها فإذا هي حية تسعى، وما كاد يراها حتى يثب جريًا، لا يعقب لا يلوي، إنه الفتى العصبي نفسه ولو أنه قد صار رجلًا وتظهر سمات العصبية في فترة لاحقة من حياته عند تدكدك الجبل أمامه، وعندما كسر الألواح، وحينما أخذ بلحية ورأس أخيه هارون عليه السلام- غضبًا، وبعد سنوات، لقد ذهب قومه في التيه ونحسبه قد صار كهلًا حينما افترق عنهم، ولقي الرجل الذي طلب إليه أن يصحبه ليعلمه مما أتاه الله علمًا، ونحن نعلم أنه لم يستطع أن يصبر حتى ينبئه بسر ما يصنع مرة ومرة، فافترقا «11».
ولكن الداعية.. له رؤيته الخاصة الذاتية التي توضح ما التبس، وتفسر ما أبهم من كلام الأستاذ الذي عرض الجانب الإنساني البشري للشخصيات، فالقائد بشر وله سماته الإنسانية التي جبل عليها، وعلى الرغم من هذا فإنه يتطور بحركته مع منهج الله تطورًا تربويًا، وذلك لأن طريق الدعوة يتطور بسلوك سائريه تطورًا إيجابيًا فيكسب شخصياتهم أبعادًا أخلاقية حسب ما قدر لهم وما هو مطلوب منهم، فالذي يسوس أمة للتمكين ولخلافة الله في الأرض، يجب أن يتحكم في مشاعره الفطرية التي جبل عليها، لذا فإن القيادة دومًا إلى نماء وتطور تربوي مع حركتها بالمنهج.
ويصدق ذلك ما حوته «قصة البقرة» من صفات رفيعة للقيادة الراشدة الممثلة في موسى- عليه السلام- وهو يمضي في رحلته الدعوية لإنقاذ بني إسرائيل، وما ورد في سيرته ﷺ وكيف صنعه الله سبحانه على عينه، فكان نماءه القيادي وتطوره التربوي في فهم سبيل أصحاب الدعوات، فتجلى ذلك في رده المستغرب في أول الطريق عندما قال لورقة بن نوفل «أو مخرجي هم؟» فرد «ورقة ابن نوفل» بخبرته وعلمه: «لم يأت رجل قط بمثل ما جنت به إلا عودي»، ثم تأمل موقفه بعد المضي قدمًا في طريق الدعوة غضب من خباب بن الأرت- رضي الله عنه- لاستعجاله: شكونا إلى رسول الله وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا؟ فقال: قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، ثم يؤتي بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط من الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يصده ذلك عن دينه، «والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون» «12» وكذلك في موقفه عندما تعرض لمحنة اللمز والتشكيك في عدالته من قبل أحد المنافقين فكانت شهادته التي زكت صبر أخيه موسى- عليه السلام- وذلك فيما رواه ابن مردويه عن ابن مسعود- رضي الله عنه- قال: «لما قسم النبي الله غنائم حنين سمعت رجلًا يقول: إن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله، فأتيت النبي ﷺ فذكرت له ذلك فقال: «رحمة الله على موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر»، ونزل ﴿وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ﴾ (التوبة: 58) «13».
الهوامش
۱ - صناعة الحياة: الراشد ١-٤ بتصرف.
2- بين القيادة والجندية مصطفى مشهور.
3- القيادة- الأسباب الذاتية للتنمية القيادية: جاسم المهلهل ١٧ - ٢٤ بتصرف.
4- صناعة الحياة: الراشد ١١٥.
5- حدیث حسن رواه أبو داود بإسناد حسن.
6- مجموعة الرسائل التعاليم: الإمام البنا ص ٣٦٤.
7- التوبة: ٧٤
8- رواه مسلم ۲۳۸۸
9- رواه مسلم والترمذي وأحمد.
۱۰ - القيادة جاسم المهلهل ٨٦٨١ بتصرف.
۱۱ . التصوير الفني في القرآن سيد قطب ۲۰۰ – ۲۰۳ بتصرف.
۱۲ - رواه البخاري.
١٣ - التوبة: ٠٨
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل