; محاولات أخرى للتغيير | مجلة المجتمع

العنوان محاولات أخرى للتغيير

الكاتب الشيخ نادر النوري

تاريخ النشر الثلاثاء 15-نوفمبر-1994

مشاهدات 12

نشر في العدد 1125

نشر في الصفحة 49

الثلاثاء 15-نوفمبر-1994

لقد تتبعنا مذاهب أكابر أهل السنة والجماعة في التغيير وكيف تطور الأمر منذ القرن الأول الهجري الذي وُلد فيه أبو حنيفة وكان مذهبه مشهورًا في قتال الظلمة وأئمة الجور حتى قال عنه الأوزاعي احتملنا أبا حنيفة على كل شيء حتى جاءنا بالسيف فلم نحتمله! وهو مذهب للسلف قديم كما يقول الحافظ ابن حجر في الفتح وقد تتابعت التجارب الفاشلة التي أشرنا إليها في المقالات السابقة كالحسين بن علي وابن الزبير وعبد الرحمن بن الأشعث وسعيد ابن جبير والشعبي وابن أبي ليلى وأبى البختري ثم زيد بن علي ثم ابنه يحيى ثم حفيده عبد الله ثم محمد بن عبدالله النفس الزكية الذي كان أبو حنيفة -رحمه الله- يجهر في مناصرته في درسه فتعرض للسجن والابتلاء بسببه وهذا هو الرأي العام لأهل الدين في القرن الأول الهجري ثم تغير تلك الآثار السلبية التي نتجت منها وهو مجرد تبديد القوى وسفك الدماء وإزهاق الأنفس والأرواح وامتحان العلماء، ولذا كان مذهب مالك -رحمه الله– مغايرًا لأن من عاصر هذه الأحداث وعلم ما تؤول إليه من نتائج سيئة فلزامًا عليه أن يغير رأيه تبعًا لذلك وعلى هذا الرأي استقر أهل العلم من بعدهم كالإمامين الشافعي وأحمد -رحمهما الله- ومن جاء بعدهما.. لأن الغاية هي تحصيل الخير ودفع الشر وقد تيقنوا أنه ليس في الخروج لا مصلحة دين ولا مصلحة دنيا، بل نقص الخير بسببه وأفضى إلى فساد عظيم مما أوجب فتنًا كثيرة. 

ولكن بقي أنه في بعض الأحيان في فترات التاريخ الإسلامي تقوم جماعات للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا بقصد الخروج وإنما للقيام بالإنكار تارة بجهود فردية وتارة أخرى بجهود جماعية نسوق منها ما ذكره ابن كثير في البداية والنهاية جـ ١٠ ص ٢٤٨ في أحداث سنة 202، «وفيها ظفر إبراهيم بن المهدي بسهل ابن سلامة المطوّع فسجنه، وذلك أنه التف عليه جماعة من الناس يقومون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولكن كانوا قد جاوزوا الحد! وأنكروا على السلطان. ودعوا إلى القيام بالكتاب والسنة، وصار -أي لكثرة أتباعه- باب داره کأنه باب دار السلطان وعليه السلاح والرجال وغير ذلك من أبهة الملك، فقاتله الجند فكسروا أصحابه فألقي السلاح وصار بين النساء والنظارة.. ثم اختفى في بعض الدور، فأخذ -أي قبض عليه وجيء به إلى إبراهيم- صاحب الشرطة-فسجنه سنة كاملة».ويقول في أحداث سنة ۲۰۷«فيها خرج عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الله بن محمد ابن عمر بن علي بن أبي طالب ببلاد «عك» في اليمن يدعو إلى الرضى من آل محمد، وذلك لما أساء العمال السيرة، وظلموا الرعايا، فلما ظهر بايعه الناس فبعث إليه المأمون دينار بن عبد الله في جيش كثيف ومعه كتاب أمان لعبد الرحمن هذا إن هو سمع وأطاع، وهكذا استجاب وعدل عن رأيه. 

ويقول في أحداث سنة ٢٣١ جـ ١٠ ص304 «وفيها كان مقتل أحمد بن نصر الخزاعي-رحمه الله-وأكرم مثواه.. وكانت له وجاهة ورياسة وكان أبوه نصر بن مالك يغشاه أهل الحديث.. وقد بايعه العامة سنة201 على القيام بالأمر والنهي حين كثرت الشطار والدعار في غيبة المأمون عن بغداد.. وكان أحمد بن نصر هذا من أهل العلم والديانة والعمل الصالح والاجتهاد في الخير، وكان من أئمة السنة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وكان ممن يدعو إلى القول بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق.. فقام يدعو إلى الله.. فاجتمع عليه جماعة من أهل بغداد، والتف عليه من الألوف أعداد وانتصب للدعوة إلى أحمد بن نصر هذا رجلان -أي أعوان- وهما أبو هارون السرّاج يدعو أهل الجانب الشرقي وآخر يقال له طالب يدعو أهل الجانب الغربي «أي من بغداد» فاجتمع عليه -وصاروا من جماعته- من الخلائق ألوف كثيرة وجماعات غزيرة.. 

فلما كان شهر شعبان من هذه السنة انتظمت البيعة لأحمد بن نصر الخزاعي في السرَّ على القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والخروج على السلطان لبدعته ودعوته إلى القول بخلق القرآن، ولما كان هو عليه وأمراؤه وحاشيته من المعاصي والفواحش وغيرها، فتواعدوا على أنهم في الليلة الثالثة من شعبان -وهي ليلة الجمعة- يضرب طبل في الليل فيجتمع الذين بايعوا في مكان اتفقوا عليه.. ولكن خرج رجلان في الليلة التي قبلها وقد تعاطوا الشراب!! فقاما يضربان على طبل في الليل ليجتمع عليهم الناس فلم يجئ أحد وانخرم النظام! وسمع الحرس في الليل فأعلموا نائب السلطنة، فأصبح الناس متخبطين فأحضر الرجلين فعاقبهما فأقرا على أحمد بن نصر.. ثم أمر الواثق -الخليفة - بتتبع رؤوس أصحاب أحمد ابن نصر وأخذ منهم نحوًا من تسع وعشرين رجلًا وأودعوا السجون وسموا الظلمة، ومنعوا أن يزورهم أحد وقيّدوا بالحديد ولم يجر عليهم شيء من الأرزاق التي كانت تجري على المحبوسين، وهذا ظلم عظيم. 

وقُتل أحمد بن نصر بيد الواثق -رحمه الله- وكان قد لبس الكفن وتحنط وحمل رأسه إلى بغداد فنصب على بوابتها وكتب في رقعة معلقة في أذنه «هذا رأس الكافر المشرك الضال أحمد بن نصر الخزاعي» وذكره الإمام أحمد بن حنبل يومًا فقالل -رحمه الله- ما كان أسخاه بنفسه لله لقد جاد بنفسه له!! وقال جعفر بن محمد الصائغ: بصرت عيناي وإلا فقتتا وسمعت أذناي وإلا فصُمّتا أحمد بن نصر الخزاعي حين ضربت عنقه يقول رأسه لا إله إلا الله. وقد سمعه بعض الناس وهو مصلوب على الجذع ورأسه يقرأ. ﴿الٓمٓ أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُترَكُوٓاْ أَن يَقُولُوٓاْ ءَامَنَّا وَهُم لَا يُفتَنُونَ  (العنكبوت:2:1)

 

الرابط المختصر :