العنوان المغرب العربي يدخل مرحلة فتح الملفات الصعبة
الكاتب نور الدين العويديدي
تاريخ النشر السبت 08-ديسمبر-2001
مشاهدات 17
نشر في العدد 1480
نشر في الصفحة 36
السبت 08-ديسمبر-2001
المغرب: التعذيب والاغتيالات
الجزائر: المجازر الجماعية والاغتيالات
تونس: انتخابات ٢٠٠٤م والعفو العام
هذه الملفات تضع أنظمة الحكم في مأزق أمام شعوبها والرأي العام الدولي
شهدت الفترة الماضية فتح عدد من الملفات الحساسة في الدول الرئيسة الثلاث في المغرب العربي المغرب والجزائر وتونس يتعلق بعضها بالماضي البعيد أو القريب ويتعلق بعضها الآخر بالحاضر والمستقبل، وتتميز هذه الملفات بحيويتها وأهميتها القصوى بالنسبة للشعوب والحكومات في الدول الثلاث وهو ما يجعلها تتصدر الاهتمامات وتشغل الرأي العام الداخلي والخارجي.
المغرب:
ففي المغرب الأقصي شهدت الساحة السياسية والإعلامية جدلاً محتدماً بشأن مرحلة حكم العاهل الراحل الحسن الثاني وما شهدته من انتهاكات لحقوق الإنسان. وقد فجر رجل المخابرات السابق أحمد البخاري أزمة حادة، بإعلانه تورط المخابرات المغربية في اغتيال المعارض اليساري السابق المهدي بن بركة وتذويب جثته في حامض الأسيد.
ولم يكتف البخاري بفتح ملف ابن بركة، بل كشف عن معلومات غزيرة وموثقة بالأسماء والأماكن والتواريخ عن عمليات اعتقال وتعذيب وقتل شهدتها المعتقلات المغربية، واتهم شخصيات محددة من المخابرات بالتورط فيها كما تحدث عن رجال سياسة وقادة أحزاب وبرلمانيين متهماً إياهم بالتعاون مع المخابرات المغربية، وهو ما أثار جدلاً حاداً في المغرب. وكما كان متوقعًا، فقد جرى تكذيب البخاري من قبل رجال استخبارات سابقين لا يزالون على قيد الحياة متهمين بالتورط في تلك الأعمال القذرة، لكن شهادة البخاري وقع تعضيدها وتدقيقها من قبل معتقلين سياسيين سابقين. إلا أن هذا الضابط السابق في المخابرات المغربية الذي يعلل فتحه لهذه الملفات الآن بصحوة ضمیره بعد مرور أكثر من ثلث قرن، قد اتهم هو الآخر من قبل معتقلين سابقين بالتورط في أعمال التعذيب، شأنه شأن بقية عناصر الاستخبارات في فترة اتسمت بالاضطراب السياسي والمؤامرات وشهدت محاولتي انقلاب على العاهل الراحل بين عامي ۱۹۷۱ و ۱۹۷۲م. وبالرغم من حرص العاهل المغربي الملك محمد السادس على تنقية ملف بلاده مما علق به من صور التعذيب والاختفاء القسري والانتهاكات الواسعة لحقوق الإنسان - وذلك بفتح تلك الملفات والعمل على معالجتها وتعويض بعض المتضررين منها ماليًّا، وذلك في أجواء سياسية جديدة تتسم بأقدار من الانفتاح وتتولى فيها المعارضة السابقة حكم البلاد - إلا أن المعالجات الجزئية والمنقوصة لتلك الملفات جعلتها متفجرة باستمرار وقابلة للاشتعال في أي لحظة.
وبالرغم من أن الملك الجديد غير مسؤول عن تصرفات الأجهزة الأمنية والاستخبارية في عهد والده الراحل، خاصة وأن الكثير من تلك الأحداث الأليمة قد جرى والعاهل الجديد لا يزال طفلاً صغيرًا، إلا أن محمد السادس لا يستطيع التخلص ببساطة من إرث والده في نظام يرث فيه الحكم والشرعية والإنجازات والأخطاء وحتى الأعداء والأصدقاء!
وبالرغم من السعي الحثيث الذي بذله للخروج ببلاده من حالة الاحتقان التي ميزت المغرب شطرًا من تاريخه السياسي الحديث، إلا أنه لا يستطيع أن يعلن نقدًا مباشرًا للتجربة السابقة، ولعله أيضًا لا يتقبل بارتياح هذا النقد الموجه لمرحلة حكم والده.
ولعل أخطر ما في الأمر أن تفجر ملف التعذيب والاغتيالات يأتي في مرحلة حساسة تعاني فيها الحكومة المغربية من عجز واضح عن معالجة الملفات الاقتصادية والاجتماعية ومشكلات الجفاف والبطالة التي يعاني منها شطر كبير من المغاربة، كما تأتي هذه الانتقادات قبل عام واحد من انتخابات برلمانية مصيرية ستعرفها المغرب العام القادم يخشى أن يتنامى بسببها نفوذ المؤسسة العسكرية، ودورها في حكم البلاد وهى المؤسسة التي تبدي قلقًا متناميًا من تزايد نفوذ الحركة الإسلامية بجناحيها المشروع والمشارك في مؤسسات الدولة وخاصة البرلمانية ممثلاً في حزب العدالة والتنمية، وحركة الإصلاح والتوحيد، وجناحها الراديكالي غير المسلم بالشرعية الملكية متمثلاً في حركة العدل والإحسان.
ومما يزيد من مخاوف المؤسسة العسكرية من التطورات ومن مخاوف السياسيين من تلك المؤسسة المتزايدة النفوذ أن الانتخابات القادمة ستجرى وسط ترهل شديد للحزب القائد للحكومة (الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية) وتنامي الانقسامات داخله، التي أسفر عنها مؤتمره الأخير، فانقسم الحزب إلى جناحين متصارعين، هذا فضلاً عن تنامي الترهل داخل قوى اليسار عمومًا، وعجز أحزاب المعارضة الحالية غير الإسلامية، وهي أحزاب كانت قد تشكلت في عهد رجل الدولة القوي السابق إدريس البصري، وزير الداخلية السابق، وعهد لها بالحكم مباشرة إثر تشكيلها، إذ لم تتعود على الجلوس في مقاعد المعارضة، ولا تشكلت لها، وهو ما يجعلها عاجزة عن مواجهة الحكومة، بالرغم من عجز هذه الأخيرة عن تحقيق خطابها السابق الذي دأبت على تكراره نحو أربعين عامًا.
الجزائر: المتمردون على الجيش:
أما في الجزائر فإن أهم ملف يشغل بال الجزائريين ويؤرقهم شعبًا وحكومة ومعارضة في هذه المرحلة - إضافة إلى حالة الغليان والغضب الاجتماعي، الذي تفجر غضبًا في الشارع في منطقة القبائل وغيرها، ولا تزال في ذيوله تتفاعل حتى الآن - فهو تورط قادة المؤسسة العسكرية في مجازر جماعية، طالت المئات من الجزائريين في السنوات القليلة الماضية.
ولقد تكثفت في الأشهر الماضية شهادات ضباط كبار سابقين في المؤسسة العسكرية الجزائرية توالت كالسيل، تؤكد تورط بعض قادة المؤسسة العسكرية في تنظيم مجازر جماعية ضد مدنيين جزائريين، لقد كان عدد من العسكريين الفارين من الجزائر يرددون في الأعوام الماضية في ما يشبه الهمس، والجهر أحيانًا، اتهامات للمؤسسة العسكرية بالتورط في المجازر الجماعية وتنظيمها والسهر عليها. لكن شهادات أولئك العسكريين كانت لا تؤخذ بما يكفي من الجد حتى جاء سيل جديد من الشهادات الموثقة التي نشرت في كتب وتقارير مطولة ومفصلة عن تلك الجرائم، كان أهمها كتاب الضابط حبيب سوايدية، الذي عنونه باسم «الحرب القذرة». وهو كتاب جرى تقديمه من قبل قاض إيطالي بارز متخصص في محاربة المافيا والجريمة المنظمة، مما أضفى عليه مزيدًا من المصداقية.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، فقد حملت الأسابيع القليلة الماضية شهادات جديدة من ضباط كبار اتهموا فيها قادة الجيش الجزائري باغتيال الرئيس الأسبق محمد بوضياف بالتورط في مجازر رهيبة ضد المدنيين، وخاصة من المتعاطفين مع الجبهة الإسلامية للإنقاذ وبعض قادتها .
لقد حرص قادة المؤسسة العسكرية الجزائرية - بعد استلامهم السلطة في انقلاب 1۱من يناير ۱۹۹۲م على الرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد، وعلى نتائج انتخابات ٢٦ من ديسمبر ۱۹۹۱م، التي فازت الجبهة الإسلامية للإنقاذ بأغلب مقاعد دورها الأول - على أن يقدموا أنفسهم للجزائريين وللخارج باعتبارهم حماة الجمهورية والنظام الديمقراطي من البعبع الأصولي.
وتمتع قادة المؤسسة العسكرية بهذه النياشين سنين طويلة، وتهافت عليهم الدعم الدولي بالمال والسلاح، وبررت تلك النياشين لأولئك القادة المزيد من السيطرة على أجهزة الدولة وحكمها من خلف ستار عدد من السياسيين الذين لم يجدوا حرجًا في أن
يكونوا مجرد واجهة للسلطة في بلادهم. لكن الوضع تغير في السنين الأخيرة، وجاء حكم الرئيس عبد العزيز بوتفليقة ليشهد صراعًا حارًّا أحيانًا وباردًا أحيانًا أخرى مع قادة المؤسسة العسكرية على المناصب والنفوذ وعلى سياسة تسيير مؤسسات الدولة. ثم تتالت لشهادات التي انفجرت في وجه الجيش الجزائري كالبركان، وهو ما هز ثقة الجزائريين والرأي العام العربي والدولي في قادة المؤسسة العسكرية، مثلما هز ثقة أولئك القادة في أنفسهم.
وبعدما كانت المؤسسة العسكرية تبرر سيطرتها على السلطة بحماية الجمهورية والنظام الديمقراطي من البعبع الأصولي، وتتهم العديد من فصائل التيار الإسلامي بالإرهاب والتخريب والجريمة وجدت نفسها في موقع الدفاع، ولا يبدو أنها تمتلك اليوم حججًا مقنعة أمام سيل الاتهامات التي توثق المجازر الجماعية وضحاياها والقائمين بها والمشرفين عليها، وهو ما ألجأ تلك المؤسسة إلى الصمت. ولم يعد اتهام الإسلاميين كافيًا للتنصل من المسؤولية، فالجماعات المسلحة، التي دأبت على تبنى المجازر ضد الجزائريين كشفت الشهادات المتتالية أنها جماعات مخترقة ومسيرة من قبل المؤسسة الاستخبارية الجزائرية.
صيف الجزائر كان ساخنًا، وانتفاضة القبائل التي ألهبتها القضايا الاجتماعية وقضايا الهوية الأمازيغية، وسقط فيها العشرات من القتلى والمئات من الجرحى قد تضافرت مع انتفاضة أشد قساوة طالت مشروعية حكم المؤسسة العسكرية واستفرادها بتسيير الأمور فيها، وهو ما أثر على ثقة الرأي العام الداخلي والخارجي في المؤسسة وثقة قادتها في أنفسهم، وفي قدرتهم على الحفاظ على الوضع الذي بدأ الفتق فيه يغلب الراتق.
تونس: العفو والرئاسة:
أما في تونس أصغر الدول المغاربية الثلاث مساحة وسكانًا فإن الانتخابات الرئاسية للعام ٢٠٠٤م والتجديد للرئيس زين العابدين بن علي لدورة رئاسية رابعة وقضية العفو التشريعي العام، وإطلاق سراح نحو ألف من المساجين السياسيين يعتبران من أهم الملفات التي فتحت في تونس في الفترة القليلة الماضية. فعلى صعيد انتخابات العام ٢٠٠٤م والتجديد للرئيس بن علي، وتعديل الدستور الذي ينص على عدم السماح لأي رئيس بأن يحكم البلاد أكثر من ثلاث دورات متتالية.
شهدت الأسابيع الماضية حملة متنامية من قبل صحف الحزب الحاكم والشعب التابعة له في مختلف أرجاء البلاد، تدعو بن علي لتعديل الدستور والتجديد لدورة رابعة، وتأتي هذه الحملة في ظل تزايد رفض المعارضة للتجديد لبن علي، ومطالبته بالالتزام بنصوص الدستور، التي وضعها بنفسها إثر انقلابه على الرئيس السابق بورقيبة في العام ۱۹۸۷م. وكان حزبان قانونيان - هما الحزب الديمقراطي التقدمي الذي يقوده المحامي أحمد نجيب الشابي، وحزب الوحدة الشعبية الذي يقوده محمد،بو شيحة وهو من الأحزاب الممثلة في البرلمان بسبعة مقاعد ومتحالفة مع السلطة قد أعلنا رفضهما التجديد لبن علي، أما المعارضة غير القانونية، فقد أصدرت في أكثر من مناسبة بيانات تدعو الرئيس إلى عدم تعديل الدستور، وعدم الترشح في الانتخابات القادمة وإتاحة الفرصة أمام البلاد؛ كي تعرف انتخابات ديمقراطية ونزيهة في العام ٢٠٠٤م. وكان عدد من المعارضين - منهم رئيس حركة الديمقراطيين الاشتراكيين محمد مواعدة، والناشرة سهام بن سدرين الناطقة باسم المجلس الوطني للحريات، وهو تنظيم حقوقي وسياسي محظور - قد اعتقلوا في شهر يونيو الماضي، على خلفية إدلائهم بتصريحات معارضة للتجديد للرئيس بن علي وكان مواعدة قد وقع في شهر مارس الماضي بيانًا مشتركًا مع رئيس حركة النهضة الشيخ راشد الغنوشي أعلنا فيه تصديهما لتجديد بن علي لدورة رئاسية جديدة.
أما بالنسبة لموضوع العفو العام فقد تزايدت الأصوات المطالبة بإطلاق سراح نحو ألف من المعتقلين السياسيين، معظمهم من حركة النهضة الإسلامية. وقد انضمت للدعوة للعفو العام أحزاب محسوبة على السلطة مثل حركة التجديد الحزب الشيوعي سابقاً) وحزب الوحدة الشعبية كما انضم إليه الاتحاد العام للشغل أقدم المنظمات النقابية التي تحسب قيادتها الحالية أيضًا على السلطة، فضلاً عن الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان ونقابة المحامين والقضاة وباقي قوى المعارضة غير المعترف بها من السلطة. وترى أوساط سياسية ومحللون أن موضوع العفو العام قد أضحى محل إجماع تونسي نادر، وأن السلطة قد تجد نفسها مضطرة للتعامل مع هذا المطلب في وقت غير بعيد. لكن ما يلاحظ أن الخطاب الرسمي لا يزال ينفي أن يكون في تونس معتقلون سياسيون، وتصر البيانات الرسمية على التأكيد أن المعتقلين هم معتقلو حق عام أصدر القضاء حكمه في شأنهم، لكن فتح القاضي مختار اليحياوي ملف القضاء، ودعوة الرئيس باعتباره رئيس المجلس الأعلى للقضاء إلى التدخل لضمان حرية القضاة، ورفع يد الأجهزة الأمنية عن التدخل في شؤونهم، وهو الأمر الذي سانده فيه العشرات من القضاة من شأنه أن يضعف من خطاب السلطة التونسية بشأن المعتقلين السياسيين الذين تردد باستمرار أنهم مجرمو حق عام نالوا جزاءهم العادل من قضاء حر ونزيه.