; الدعوة الإسلامية وأهدافها وغاياتها | مجلة المجتمع

العنوان الدعوة الإسلامية وأهدافها وغاياتها

الكاتب الدكتور محمد ناصر

تاريخ النشر الثلاثاء 17-مارس-1970

مشاهدات 666

نشر في العدد 1

نشر في الصفحة 10

الثلاثاء 17-مارس-1970

معنى كلمة الدعوة

كلمة الدعوة تعني النداء. وقيامنا بدعوة من الدعوات يعني بأننا نوجِّه نداءً. تری إلى من يوجَّه هذا النداء وإلى أي شيءٍ هذا النداء؟

يقول الله في كتابه العزيز: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ (سورة الأنفال: الآية ٣٤).

 فهذا النداء الكريم يوجَّه لنا نحن المؤمنين وينادينا إلى شيءٍ سيهبنا الحياة، هذا النداء إلى الحياة موجَّه إلى طائفةٍ من البَشَر هم في الواقع أحياء، يتمتعون بمختلف مظاهر الحياة، أي أنهم يتنفسون ويتحرَّكون ويأكلون ويشربون ويتكاثرون ولهم حواسهم الخمس وكل ما هو مطلوب للحياة الظاهريَّة الملموسة.

 وإذ إن القرآن جَدٌّ لا هزل فيه، بل هو قول فصل، فالحياة التي يقصدها هذا النداء الإلَهيّ الكريم ليست حياتنا الحيوانيَّة المعروفة هذه، التي يحياها أي مخلوقٍ عاديٍّ، ولكنها حياة تتفق مع كرامة الإنسان كإنسانٍ متدین، يزدان بالفكر والعقل والوجدان يهديه ويوجِّهه في مسالك الحياة ودروبها دین وإیمان، له حواسه الخمس السليمة القادرة على التعرُّف والاكتناه لكل ما تصل إليه تلك الحواس من مدارك، له القوة الفكريَّة التي تستطيع هضم ما تدركه حواسه، وله الفعالية القادرة على الحركة والتحريك، وله القلب الحيّ اليقظ المستعد لتقبُّل الهداية الإلَهيَّة التي جاءت بها العقيدة والشريعة، وذلك لكي يرقى بمرتبته الإنسانيَّة على مستوى أولئك الفئة من الناس الذين قال فيهم القرآن الكريم ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (سورة الأعراف: الآية ۱۷۹).

 يدعونا الله ورسوله إلى عقيدة تُحرِّرنا من أغلال الجهالة العمياء، وتُطهرنا من أدران العبوديَّة لغير الله، وأرجاس الشرك التي تشل الروح وتحول دون رُقينا الظاهر والباطن كأفراد.

 يدعونا الله ورسوله إلى شريعةٍ تكفل لنا الحلول الصائبة الصحيحة لكل مشكلات الحياة المختلفة، سواء بالنسبة إلى الفرد في حالته الفرديَّة أو بوصفه عضوًا في الأسرة أو المجتمع والدولة والأسرة الإنسانيَّة جمعاء.

 يدعونا الله ورسوله للاضطلاع بمهامنا الحياتيَّة بوصفنا عبادًا لله في عالم تزخر بقاعه بمختلف أجناس البشر المتباينة المبادئ والعقائد، وذلك لكي نكون شهداءً على الناس ولنؤدِّي دورنا الطليعي بينهم.

 وكذلك يدعونا الله ورسوله لأداء الواجب الرئيس لوجودنا، وهو عبادة الله الواحد الأحد ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ (سورة الذاريات: الآية 56).

 

العبادة لا تقتضي الانعزال

ترى ما هي عبادة الله هذه، التي كانت علة وجودنا وسبب خلقنا؟

 إن هذه العبادة أولًا تستلزم انصرافنا عن الحياة الدنيا، ذلك لأن مهمة الإنسان في العالم أن يكون «خليفةً في الأرض» خليفة الله في هذا العالم، وما ينبغي لمستخلف أن ينصرف عمَّا اسْتُخلِفَ فيه.

المقصود من عبادة الله هو أفراده بالطاعة والانقياد له بتكييف كل ما يتعلَّق بحياتنا الدنيا الظاهرة منها والباطنة وَفْقًا لما يريد ويشاء، أو بتعبيرٍ آخر هو أن نجعل كل نشاطٍ لنا نكرِّسه فيما نتعبَّد به للخالق أو نتعامل مع المخلوقين قربة إلى الله نتوخى بها مرضاته.

﴿وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَىٰ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَىٰ وَلَسَوْفَ يَرْضَىٰ﴾ (سورة الليل: الآية 19. 20 .21).

كما يُقصَد بالعبادة أيضًا أن نكون لدى ممارستنا لشئوننا اليوميَّة واعين كل الوعي أن الله حاضرٌ وشاهدٌ، بل مُطلع على خلجات النَّفس «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك».

 والاستسلام له يعني قيامنا بالأعمال التي تتيح للقدرات والمواهب المودعة في فطرتنا الإنسانيَّة جسمانيًّا وروحانيًّا فرص النمو والرُّقي طبقًا لمهام كلٍ منها في تناسقٍ وتوازن، والسمو بها من طبقتها إلى طبقةٍ أعلى وأسمی، توازن بین العبادات والمعاملات، توازن بين تقدُّم الفكر وكرم الأخلاق وبين الدعاء والسعي، توازن بين التمتُّع بالحقوق والقيام بالواجبات للآخرين، حتى نستطيع إقامة نظام للحياة، يمتاز بالصبغة الخاصة، ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ ۖ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً﴾ (سورة البقرة: الآية 138).

 ثُمَّ إن العبادة لا تقتضي منا الانعزال عن الدنيا وما فيها، بل إن من واقع العبادة أن نشكر الله على نعمه التي وهبنا إياها بأن نسخرها لِمَا يوصِّلنا إلى الدار الآخرة ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ (سورة القصص: الآية ۷۷). كما يوصِّلنا أيضًا إلى الحياة الحقيقيَّة ﴿وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ (سورة العنكبوت: الآية ٦٤). وهي الحياة التي تفوق كثيرًا حياتنا الدنيا، التي يكون على ذروتها لقاؤنا بالخالق الباري.

وهكذا ينادينا الله ورسوله إلى ما يمنحنا حياة لهـــــــا وظيفتها المحدَّدة وأهدافها المحدَّدة، وإلى أن نعمِّر هذه الحياة بمختلف أوجه العمل والنشاط التي من شأنها أن تؤدِّي تلك الوظيفة كاملة غير منقوصة، مع توجيه الحياة إلى أهدافها الأصيلة. وتلك هي الاستجابة الحقَّة للنداء الذي وجهه الله ورسوله إلينا يدعو لِمَا يحيينا.

والرسالة المحمديَّة التي حملت إلينا هذا النداء الإلَهيّ الكريم قد اكتملت في اليوم الذي أُنزِلَت فيه الآية الكريمة ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا (سورة المائدة: الآية 3). في ذلك اليوم التاريخيّ الخالد، خطب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خطبة الوداع في جماهير الحجيج القادمين من مختلف أصقاع الجزيرة والأنحاء المجاورة، خاطبها رسول الله وهي متجمهرة في عرفات، وألقى فيها خطبته الجامعة يودِّع بها أُمَّته التي هو حريص عليها وهي حبيبة إلى نفسه، فقال:

الإعلان الدستوريّ للرسالة

«أيها الناس اسمعوا مني فأني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا في مثل هذا الموقف..»، ثُمَّ أودع الرسول، صلوات الله وسلامه عليه، في تلك الخطبة الوداعيَّة الأسس التي يقوم عليها الإسلام ومنها:

 *التنويه على وجوب احترام حقوق الإنسان وسلامته المكفولة في الأرواح والممتلكات كضرورةٍ من ضرورات الحفاظ على السلام والأمن العام.

* التأكيد على إلغاء التعامل الربويّ بمختلف مظاهره وأشكاله، لِمَا في ذلك من استغلالٍ بشع للضعف والفاقة.

* التنويه على الحقوق الخاصة بالمرأة وواجباتها بصفةٍ عامة، وعلى أسس العلاقات الوطيدة بين الزوجين والواجبات المتبادلة بينهما.

* صيانة الروابط الأخويَّة بين المؤمنين وتنميتها.

* التنويه على المساواة التامة في الحقوق والواجبات بين بني الإنسان بغض النظر عن العنصر واللون.

وكان صلى الله عليه وسلم في ختام سرد كل فقرةٍ من هذه التوجيهات السامية، يسأل الجماهير كي يختبر مدى وعيها لِمَا يقول وكيف يستوعبه الحاضرون والأجيال القادمة من بعدهم، يسألهم فيقول صلوات الله وسلامه عليه: ألا هل بلَّغت؟ فتجيبه الجماهير وهي بالغة التأثير: اللهم نعم.

 فيقول: اللهم فاشهد.

ولم يفته صلى الله عليه وسلم أن ينبه بضرورة التزام اليقظة والحذر من مؤامرات الشيطان بعد خذلانه، فيقول -صلى الله عليه وسلم-: «أيها الناس إن الشيطان قد يئس أن يُعبَد بأرضكم ولكنه قد رضي أن يطاع فيما دون ذلك مما تحقرونه من أعمالكم فاحذروه على دينكم. أو كما قال «ص» وبلغت الخطبة الوداعيَّة ذروتها حين قال -صلى الله عليه وسلم-: «فاعقلوا أيها الناس قولي فإني قد بلغت وقد تركت فيكم ما إن تمسَّكتم به فلن تضلوا أبدًا، کتاب الله وسنة نبيه.

وإنكم ستسألون عني فما أنتم قائلون؟ فتجيبه الجماهير: «اللهم نشهد إنك قد بلَّغت وأديت ونصحت». فيقول: «اللهم فاشهد»، ثُمَّ يختتم قوله: «ألا فليبلِّغ الشاهد منكم الغائب..».

هذه الفقرة الختاميَّة تبدو وكأنها عملية «تسليم واستلام» بين سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأمة أجابته إن الرسالة قد كملت، وبقي على الدعوة أن تستمر ويقوم الدعاة بتبليغها.

الدعوة يجب أن تستمر في تبليغ هذا النداء الإلَهيّ الذي بلَّغه إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي يدعو به إلى ما يمنح للبشر الحياة التي تلائم وظيفته وأهدافه في الوجود.

 

التعبئة العامة

إن الأمر النبويّ الساميّ حين صاغه الرسول الكريم في قوله: «ألا فليبلِّغ الشاهد منكم الغائب» كان موجهًا إلى جميع الذين كانوا في ساحة عرفات في ذلك اليوم المشهود من حجة الوداع، وجِّه إليهم جميعًا سواء منهم الخاص أو العام ومن مختلف المستويات واللقاءات.

كل من أتيح له أن يسمع عليه أن يبلِّغ لمن لم يسمع أينما كان وحيثما كان، عبر القرون والأجيال. وأحسب أن لدينا الأدلة الكافية لإثبات إن واجب الدعوة إنما هو فرضٌ عينيّ، بمعنى أن كل مسلمٍ ومسلمة بلغا حدّ التكليف يجب عليه أن يؤدِّي دوره في مهمة الدعوة بالقدر الذي يطيقه وحسب ما يتيحه له الزمان والمكان والطاقات والقدرات.

إن الأمر الإلهيّ القائل: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (سورة آل عمران: الآية ١٠٤) إنما قال «ولتكن منكم أمة» ولم يقل «وليكن منكم دعاة أو مبلغون» أو «وليكن منكم علماء» يدعون إلى الخير...إلخ.

ذلك لأن الأمر الكريم إن هو إلا تعبئة عامة، وتجنيد عام لجميع المكلفين من الأُمَّة لأداء واجب الدعوة، ويقول بعض المفسرين في تفسير هذه الآية الكريمة ما مؤداه إن كلمة «من» هنا ليست للبعضيَّة ولكنها بيانيَّة. إذن فمعنى «ولتكن منكم أُمَّة يدعون إلى الخير»، لتكونوا أُمَّة يدعون إلى الخير، أي يجب أن تكونوا جميعًا أُمَّة تضطلع بالدعوة، تدعون إلى الخير وتأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر، وإذن ستكونون مفلحين.

وهذا يعني أن جميع أفراد الأُمَّة، رجالًا ونساءً، أغنياء وفقراء، متعلمين أو غير متعلمين، جميعهم مجنَّدون للقيام بواجب الدعوة.

ولكن هل هذا ميسور؟ نعم. إنه ميسور، ذلك لأن القيام بالدعوة لا يعني دائمًا إلقاء المواعظ والخطب أو الدروس والمحاضرات فقط. فالعلماء الذين يملكون العلم ولا يملكون المال يبذلون علومهم للدعوة، والموسرون الذين لا علم لهم ولكنهم يملكون المال يبذلون أموالهم للدعوة.

وخير الموسرين والعلماء ممن يملكون الجهد يبذلون جهودهم للدعوة، وغير هؤلاء ممن لا مال أو علم أو جهد عنده عليه أن يبذل النصح والأُسْوَة الحسنة في سلوكه كمسلمٍ يدعِّم الدعوة بذلك.

إذن فهناك طرائق للدعوة: باللفظة المسموعة، والكلمة المقروءة، بالسلوك الحسن، والعمل بالأخلاق الكريمة، إلى غير ذلك، ومثل هذه الدعوة التي تزخر بمختلف الأساليب والوسائل بالموعظة تلقى أو تسطر، بالعمل الطيب والأخلاق الكريمة، إذا أديت بالدأب والمثابرة والتخطيط السليم ورباطة الجأش، تستطيع أن تقنع خصوم الإسلام وتجعل منهم أنصارًا له. وذلك من مصداق قوله تعالى ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ (سورة النساء: الآية 65).

 أي في تصوير الدعوة الناجحة جملة وتفصيلًا.

 وبعد فإن الله سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ (سورة فصلت: الآية 33 . 34 . 35)

رئيس المجلس الأعلى الإندونيسي للدعوة الإسلامية

رئيس وزراء إندونيسيا الأسبق

جاکرتا محرم الحرام ۱۳۹۰ هـ

الرابط المختصر :

موضوعات متعلقة

مشاهدة الكل