العنوان هارون الرشيد.. الحاكم المظلوم
الكاتب منير الغضبان
تاريخ النشر الثلاثاء 04-مارس-1975
مشاهدات 14
نشر في العدد 239
نشر في الصفحة 18

الثلاثاء 04-مارس-1975
هارون الرشيد كل ما تعرفه أجيالنا عنه إنه يمثل مجتمع الجواري والعبيد . أما مصدر تلك الصورة فهي كتب الأدب وبخاصة الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني والعقد الفريد لابن عبد ربه . ونحن لا ننكر لأن هذه الكتب هي مصدر هام
للتعرف على البيئة والمجتمع . ولكن لا بد من الإشارات التالية :
غاية كتب الأدب المتعة والتسلية وقد كتبت أصلا بأسلوب قصصي مثير وعنصر الخيال جزء لا يتجزأ منه .
وكتب الأدب تطلعنا على جانب واحد من المجتمع فقط . ولا تعطينا صورة صحيحة وشاملة عن المجتمع كله فهناك كتب الفقه والفلسفة والطب والاجتماع كل منها يؤدي دوره في تقديم جانب من المجتمع وإلقاء الأضواء عليه .
أما الصورة الكاملة عن المجتمع والبيئة الإسلامية آنذاك فمصدرها كتب التاريخ التي تتناول المجتمع في شتي مجاليه ونواحيه .
جوانبه الإيجابية والسلبية وغايتها تقديم صورة مأمونة وشاملة عنه .
بعد هذه الإشارات ومن هذا الفهم الأصيل لتاريخنا يمكننا أن نتناول شخصية هارون الرشيد وعصره وبيئته كذلك لنعرف عظمة الماضي الذي تنتسب إليه . لنبني حاضرنا على هديه متجنبين عثراته وأخطاءه وكما يقول الرصافي :
وهل إن كان حاضرنا شقيا
نسود بكون ماضينا سعيدا
فخير الناس ذو حسب قديم
أضاف لفخره حسبا جديدا
فمن هو هارون الرشيد .
وحتى نتجنب الرأي الشخصي ننقل جزءا من ترجمته . من أقدم مؤرخ عندنا ابن جرير - الطبري يقول « ذكر العباس بن محمد عن أبيه عن العباس قال : كان الرشيد يصلي في كل يوم مئة ركعة إلى ان فارق الدنيا إلا أن تعرض له علة .
وكان يتصدق من صلب ما له كل يوم بألف درهم بعد زكاته ، وكان معه مائة من الفقهاء إذا حج حج وأبنائهم وإذا لم يحج حج ثلاثمائة رجل بالنفقة السابعة والكسوة سابعة والـ الباهرة .
وكان يقتفي آثار المنصور ويطلب العمل بها إلا في بذل المال فأنه لم ير خليفة قبله كان أعطى منه للمال ... وكان يحب الشعر والشعراء ويميل إلى أهل الأدب والفقه » (1)
ويضيف ابن كثير لهذه الترجمة في تاريخه البداية والنهاية - أوسع المصادر التاريخية وأكثرها تحقيقا على الإطلاق قوله :
هو هارون الرشيد ابن المهدي كان مولده في شوال سنة ست وقد غزا الصائفة في حياة أبيه مرارا وعقد الهدنة بين المسلمين والروم بعد محاصرته القسطنطينية .
ثم لما أفضت إليه الخلافة سنة سبعين كان من أحسن الناس سيرة وأكثرهم غزوا وحجا .
ولهذا قال فيه أبو السعلي
فمن يطلب لقاءك أو يرده
فبالحرمين أو أقصى الثفور
وما حاز الثفور سواك خلق
من المتخلفين على الأمور
وكان ابن أبي مريم هو الذي يضحكه بويع له بالخلافة ليلة مات أخوه وذلك ليلة الجمعة للنصف من ربيع الأول سنة سبعين ومائة وكان عمر الرشيد يومئذ ثنتان وعشرين سنة (3)
ومات ليلة السبت مستهل جمادي الآخرة سنة ثلاث وتسعين ومائة عن خمس وقيل عن سبع وأربعين سنة وكان ملكه ثلاثا وعشرين سنة (٤)
ولنلق نظرة على الدولة الإسلامية في عصره .
وسنعالج المجتمع من أربع زوايا القوة والعلم والعدل والرفاه
أما من حيث القوة فيكفي أن نذكر إنه كان يخاطب السحابة قائلا: امضي حيث شئت فسيأتيني خراجك لقد كانت الجيوش الإسلامية ترابط في كاشفر وبخارى وسمر قند في أقصى الشرق .
وعلى مياه المحيط الأطلنطي في الغرب . ولا ننسى أن أوروبا كلها بقية العالم القديم آنذاك نبعث له بالهدايا والتحف على يد شارلمان إمبراطورها الكبير .
أما من الشمال فلقد كانت دولة بيزنطة تدفع الجزية للمسلمين منذ أن كان هارون وليا للعهد .
وقد زلزل الرعب قلوبهم منذ أن حاصر القسطنطينية على زمن أبيه . ولا يزال التاريخ يذكر بمداد الفخر قصة نقض نقفور للعهد.
كتب تقفور إلى الرشيد : من نقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب .
أما بعد فإن الملكة التي كانت قبلي إقامتك مقام الرخ وأقامت نفسها مقام البيدق فحملت إليك من أموالها ما كنت حقيقا بحمل أمثاله إليها وذلك من ضعف النساء وحمقهن.
فإذا قرأت كتابي هذا فأردد إلى ما حملته إليك من الأموال وافتد نفسك به وإلا فالسيف بيني وبينك.
فلما قرأ هارون الرشيد كتابه أخذه الغضب الشديد حتى لم يتمكن أحد أن ينظر إليه ولا يستطيع مخاطبته وأشفق عليه جلساوه خوفا منه ثم استدعى بكتاب
وكتب على ظهر الكتاب : بسم الله الرحمن الرحيم من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم .
قد قرأت كتابك يا بن الكافرة.. والجواب ما تراه دون ما تسمعه والسلام . ثم شخص من فوره حتى نزل بباب هر قله ففتحها واصطفى ابنة ملكها وغنم من الأموال شيئا كثيرا وخرب وأحرق فطلب منه نقفور الموادعة على خراج يؤديه إليه كل سنة فأجابه الرشيد إلى ذلك (1)
أما من حيث العلم والأدب فمهما تحدثت ففيض من فيض.
ويمكننا أن نقول ونحن مطمئنون أن عصره كان عصر القمة العلمية بلا مراء . ويكفي أن نذكر المعلومات التالية : فنحن نعلم أن أمام العربية في العروض هو الخليل بن أحمد الفراهيدي توفي في خلافته وأمام هو سيبوبه وقد في النحو العربية في توفي في خلافته .
ثم الكسائي والأصمعي وكل منهم علامة عصره وفريد دهره كانوا في خلافته وإذا تركنا العربية جانبا إلى الفقه والقانون لوجدنا كذلك عصره قمة في ذلك .
فالأمام مالك - أمير المؤمنين في الرأي - وقد عرض عليه الرشيد أن يأخذ كتابه الموطأ ويعلقه في الكعبة ويجعله دستورا للناس.
ورفض الأمام مالك ذلك حتى لا يضيق على الناس ، وأصحاب الأمام أبي حنيفة وعلى رأسهم أبو يوسف أكبر المشرعين الإسلاميين على الإطلاق وصاحباه زفر ومحمد بن الحسن الشيباني كانوا كذلك في عصر الرشيد .
والإمام الشافعي وقد برز في عهده وعهد المأمون وأحمد بن حنبل كذلك أمضى شطرا من حياته كبيرا في عهد الرشيد . وهؤلاء الأئمة الاربعة القي اليهم قياد الفقه الإسلامي إلى اليوم .
وفي عالم الطب كان جبرائيل بن بختیشوع أكبر أطباء عصره وطبيبه الخاص
وفي عالم الشعر والأدب بـرز شعراء كبار أمثال مروان بي أبي حفصه وأبي العتاهية وأبي نواس الحسن بن هانيء والعباس بن الأحنف .
وفي عالم القيادة والنبوغ برز قادة کبار أمثال یزید بن مزيد الشيباني وعمه معن بن زائدة الشيباني وعيسى بن موسى والفضل بن الربيع ومن الفرس يحيى البرمكي وولديه الفضل وجعفر وفي عالم الزهد والورع برز ائمة أعلام مثل الفضيل بن عياض وأبو العتاهية ومن العلم إلى العدل .
فلقد كان التشريع النظري والعملي مستقى من الفقه الحنفي. وكان لوجود القاضي أبي يوسف في ذلك العصر أهمية لا تقدر بثمن فهو أول من نظم الشؤون الاقتصادية والمالية في الدولة الإسلامية ولا يزال كتاب الخراج الذي ألفه هو المصدر الأول ويكاد يكون الوحيد في نظام المال الإسلامي وعلى هديه سار التشريع كله والتطبيق في جميع أنحاء الدولة الإسلامية . ولنستمع على لسان أبي يوسف لهذه الحادثة.
قال : وليت هذا الحكم وأرجو الله أن لا يسألني عن جور ولا ميل لأحد إلا يوما واحدا جاءني فذكر إن له بستانا وإنه في يد أمير المؤمنين فدخلت إلى أمير المؤمنين .
فأعلمته فقال البستان لي اشتراه لي المهدي. فقلت إن رأى أمير المؤمنين أن يحضره لأسمع دعواه فأحضره فادعى بالبستان فقلت: ما تقول يا أمير المؤمنين.؟ فقال: هو بستاني. فقلت للرجل: قد سمعت ما أجاب. فقال الرجل. يحلف. فقلت: أتحلف يا أمير المؤمنين؟ فقال: لا. فقلت: سأعرض عليك اليمين ثلاثًا فإن حلفت وإلا حكمت عليك يا أمير المؤمنين. فعرضتها عليه ثلاثًا فامتنع فحكمت بالبستان للمدعي.
قال: فكنت أثناء الخصومة أود أن ينفصل ولم يمكني أن أجلس الرجل مع الخليفة. وبعث القاضي أبو يوسف بتسليم البستان للرجل (٥)
ولم نسمع في التاريخ كله بمثل هذه الحرية في القضاء والعدل في الأحكام.
وأما عن الرفاه وحالة الشعب فنقرأ كلامًا لا يكاد يصدقه العقل.
«وذكر الخطيب البغدادي أنه كان يباع في بغداد في أيام المنصور الكبش الغنم بدرهم، والجمل بأربعة دراهم والتمر كل ستين رطلًا بدرهم والسمن ثمانية أرطال بدرهم، والعسل عشرة أرطال بدرهم.
وينادي على لحم الغنم كل ستين رطلًا بدرهم، والزيت ستة عشر رطلًا بدرهم. ولهذا الأمن والرخص كثر ساكنوها وعظم أهلوها وكثـر الدراج في أسواقها وأزقتها حتى كان الماء لا يستطيع أن يجتاز في أسواقها لكثرة زمام أهلها» (٦)
وقال ابن الجوزي
«وقد خلف الرشيد من الميراث ما لم يخلفه أحد من الخلفاء. خلف من الجواهر والأثاث والمتعة سوى الضياع والدور ما قيمته مائة ألف ألف دينار وخمسة وثلاثون ألف دينار.
قال ابن جرير: وكان في بيت المال تسعمائة ألف ألف ونيف» (۷)
لقد ملأ الثراء الأرض الإسلامية من أقصاها إلى أقصاها. وكان الطريق لهذا الثراء مفتوحًا أمام الجميع. والأمن ضارب بجرانه في الأرض، والإسلام ناشر ألويته في رحاب المعمورة.
الرابط المختصر :
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل

