العنوان نقوش على جدار الدعوة.. بين الفردية والمؤسسية (٢من٣)
الكاتب د. جاسم المهلهل آل ياسين
تاريخ النشر الثلاثاء 19-نوفمبر-1996
مشاهدات 735
نشر في العدد 1226
نشر في الصفحة 66

الثلاثاء 19-نوفمبر-1996
ويتفق اليوم جميع العاملين والمفكرين في المجالين الاجتماعي والإداري بأن المؤسسة كأجهزة وهيكلية، والمؤسسة كعقلية وعلاقة بين أبناء الفكرة الواحدة والهدف الواحد، هما أفضل الوسائل للوصول إلى الغاية عن طريق جمع الطاقة وتصويبها وممارستها من خلال أهل الاختصاص وحيث يرتبط عمل كل عنصر في المؤسسة مع عمل العناصر الأخرى عن طريق مباشر أو غير مباشر، فإن ذلك يستوجب توفير قاعدتين أساسيتين أولاهما الشورى والأخرى التخصص، وقد راعى رسول الله هاتين القاعدتين وبنى عليهما -دعوته ومن ثم دولته - فجاءت الشورى أمرًا ربانيًّا وبلغت ذروتها في الشأن السياسي، لكنها لا تقتصر عليه فقط قال تعالى: ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ (آل عمران: ١٥٩)، وقوله أيضًا: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ﴾ (الشورى: ۳۸)، ومما جاء في الشورى ومعارضتها للفردية بأن الشورى استفادة من كل الخبرات والتجارب، واجتماع للعقول وقضاء على الاستبداد والفردية في الرأي، وبناء يساهم الجميع في إقامته، ومن ثم تكون أعلى أنواع التضحية والبذل في الدفاع عنه([1]) هذا عن القاعدة الأولى للمؤسسة والقاعدة الثانية وأعني التخصص فقد اهتم بها الإسلام وبنى عليها الكثير من الأمور ودعا الناس إلى احترامها والنزول إليها، قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ ۚ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ (الأنبياء: 7 )
أضف إلى ذلك ما جاء على لسان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- «إن الله يحب من أحدكم إذا عمل عملا أن يتقنه»، وإتقان العمل لا يمكن أن يتحقق إلا بالتخصص، ووضع الإنسان المناسب في المكان المناسب، لأن هذا الفرد المنتمي إلى جماعة يجب أن يفيدها وأن يجد نفسه في أن واحد، ورغم أن المؤسسات تأخذ طابع العمل الجماعي، إلا أنها تدار وتتحرك من خلال الأفراد، وعليهم وعلى مدى تخصصهم وكفاءتهم وتنظيمهم يتوقف نجاح المؤسسة، وبقدر ما تهم قدرات الفرد في العمل المؤسساتي بقدر ما يجب إبراز هذه القدرات لا طمسها.. ذلك أنه عندما يشعر عضو في منظمة ما أن الإشباع الذي يحققه من قيامه بدوره أقل مما يجب أو أبطأ مما يجب، فإنه يبدأ في توجيه بعض طاقاته نحو تغيير الموقف، ويؤدي عدم رضاه عن قيامه بدوره - وبخاصة إذا استمر لفترة طويلة – إلى نقص في كفاية الأداء للمنظمة([2])، وهذا للأسف ما نعانيه في مجمل مؤسساتنا السياسية والاجتماعية والتربوية.. وأحيانًا تؤخذ بالإطار الخارجي والشكل البنيوي للمؤسسة، إلا أن الجوهر يبقى بعيدًا عن ذلك المنحى وهذا ما يدفعنا إلى القول ونحن نضع اليد على العلة بأن العمل المؤسسي لا ينحصر في كونه مطلبًا فقط بل هو طريقة عمل؛ إن الكثيرين ممن يطالبون بالعمل المؤسسي يعتبرون أعلامًا في ممارسة العمل الفردي، لذلك فالمطلب الحقيقي أن نؤمن بالمؤسسة أولًا قبل أن ندعي ممارسة العمل المؤسسي، وهذه إشكالية تتخبط فيها معظم المؤسسات الخاصة والرسمية في الأمة بأسرها، وللخروج من تلك الإشكالية وتجاوز المعوقات لا بد من الابتعاد عن جملة أمور، إذا ما استطعنا تجنبها نكون قد وضعنا الأسس المتينة الصلبة لقيام المؤسسة الفعلية بالروحية والشكل، وأهمها:
الابتعاد عن سوء الظن الذي يعبث بالرباط المؤسسي ويعرض وحدة العمل للضعف والانتقاص، لذلك نجد أن اجتناب الظن قد أمرنا به الله تعالى حفاظا على العلائق والوشائج بين الأفراد: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾ (الحجرات: ۱۲).
الابتعاد عن السخرية، التي تنتشر رويدًا رويدًا في مجتمعاتنا مع أنها مخالفة لمبادئنا وتراثنا العريق، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ﴾ (الحجرات: ۱۱)
الابتعاد عن التجسس والغيبة والحسد.. هذه الصفات المستفحلة في بعض المؤسسات والكفيلة وحدها بإجهاض أي عمل مؤسسي وإفراغه من محتواه وهدفه، ومن هنا ندرك كيف أن الإسلام واجهها جميعًا بالنهي والزجر والترهيب، لأنها تؤدي إلى تخلخل وتفكك وصراع البشر في كافة أشكال المؤسسات بدءًا من الدولة ومرورا بالمجتمع والمؤسسات التربوية والإدارية والسياسية.. قال تعالى: ﴿وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾ (الحجرات: ۱۲)، وقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- «لا يدخل الجنة نمام» (متفق عليه)، وجاء فيما رواه أبو ذر عن رسول الله له انه قال: «إياكم والحسد فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب» (أخرجه ابن ماجة)
الهوامش:
[1] عمر عبيد حسنة، نظرات في مسيرة العمل الإسلامي، كتاب الأمة رقم 8 ، قطر، ١٤٠٥هـ، ص٢١.
[2] سلسلة العلاقات الإنسانية الإشراف والاستشارة تحرير جمعية الكبار الأمريكية -ت جابر عبد الحميد جابر، بالتعاون مع مؤسسة فرانكلين القاهرة – نيويورك، ١٩٦٤م.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل

