العنوان جلسة مع ابن القيم - المحبّة
الكاتب أبو عبد الله
تاريخ النشر الثلاثاء 04-نوفمبر-1975
مشاهدات 43
نشر في العدد 273
نشر في الصفحة 32
الثلاثاء 04-نوفمبر-1975
جلسة مع ابن القيم
المحبّة
أخي الحبيب
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
محبة الله ورسوله هي ما تنافس فيها المتنافسون، وإليها شخص العاملون، وإلى علمها شمر السابقون، وعليها تفانى المحبون، وبروح نسيمها تروح العابدون، فهي قوت القلوب، وغذاء الأرواح وقرة العيون، وهي الحياة التي من حرمها فهو في جملة الأموات، والنور الذي من فقده فهو في بحار الظلمات. والشفاء الذي من عدمه حلت بقلبه جميع الأسقام واللذة التي من لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام.
وهي روح الإيمان والأعمال والمقامات والأحوال. التي من خلا منها فهو كالجسد الذي لا روح فيه. تحمل أثقال السائرين إلى بلاد لم يكونوا إلا بشق الأنفس بالغيها، وتوصلهم إلى منازل لم يكونوا بدونها أبدًا واصيلها، وتبوؤهم من مقاعد الصدق مقامات لم يكونوا لولاها داخليها. وهي مطايا القوم التي مسراهم على ظهورها دائمًا إلى الحبيب. وطريقهم الأقوم الذي يبلغهم إلى منازلهم الأولى من قريب. تالله أخي الحبيب لقد ذهب أهلها بشرف الدنيا والآخرة. إذ لهم من معية محبوبهم أوفر نصيب. وقد قضى الله يوم قدر مقادير الخلائق بمشيئته وحكمته البالغة أن المرء مع من أحب فيا لها من نعمة على المحبين سابغة.
تالله لقد سبق القوم السعاة، وهم على ظهور الفرش نائمون. وقد تقدموا الركب بمراحل، وهم في سيرهم واقفون.
أجابوا منادي الشوق إذ نادى بهم: حي على الفلاح. وبذلوا نفوسهم في طلب الوصول إلى محبوبهم وكان بذلهم بالرضا والسماح. وواصلوا إليه المسير بالإدلاج والغدو والرواح، تالله لقد حمدوا عند الوصول سراهم، وشكروا مولاهم على ما أعطاهم.. إنما يحمد القوم السرى عند الصباح.
فحيهلا إن كنت ذا همة فقد
حدا بك حادي الشوق فاطو المراحلا
وقل لمنادي حبهم ورضاهم
إذا ما دعا «لبيك» ألفا كواملا
ولا تنظر الأطلال من دونهم فإن
نظرت إلى الأطلال عدن حوائلا
ولا تنتظر بالسير رفقة قاعد
ودعه فإن الشوق يكفيك حاملا
وأحي بذكراهم سراك إذا ونت
ركابك، فالذكرى تعيدك عاملا
وحي على جنات عدن بقربهم
منازلك الأولى بها كنت نازلا
وقل: ساعدي، يا نفس بالصبر ساعة
فعند اللقا ذا الكد يصبح زائلا
فما هي إلا ساعة ثم تنقضي
ويصبح ذو الأحزان فرحان جاذلا
أخي المجاهد في سبيل الله
تالله إن المحبة ما هزلت فيستامها المفلسون. ولا كسدت بالنسيئة المعسرون.. لقد أقيمت للعرض في سوق من يزيد. فلم يرضَ لها بثمن دون بذل النفوس. فتأخر البطالون وقام المحبون ينظرون: أيهم يصلح أن يكون ثمنًا؟ فدارت السلعة بينهم ووقعت في يد: ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ (المائدة: 54).
لما كثر المدعون للمحبة طولبوا بإقامة البينة على صحة الدعوى. فلو يعطى الناس بدعواهم لادعى الخلي حرقة الشجي فتنوع المدعون في الشهود. فقيل: لا تقبل هذه الدعوى إلا ببينة ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾ (آل عمران: 31) فتأخر الخلق كلهم، وثبت أتباع الحبيب في أفعاله وأقواله وأخلاقه. فطولبوا بعدالة البينة بتزكية ﴿يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ﴾ (المائدة: 54).
فتأخر أكثر المحبين وقام المجاهدون، فقيل لهم: إن نفوس المحبين وأموالهم ليست لهم فهلموا إلى بيعة ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ﴾ (التوبة: 111) فلما عرفوا عظمة المشتري، وفضل الثمن، وجلالة من جرى على يديه عقد التبايع: عرفوا قدرة السلعة، وأن لها شأنًا.
فرأوا أعظم الغبن أن يبيعوها لغيره بثمن بخس فعقدوا معه بيعة الرضوان بالتراضي من غير ثبوت خيار وقالوا: «والله لا نقيلك ولا نستقيلك» فلما تم العقد وسلموا المبيع قيل لهم: مذ صارت نفوسكم وأموالكم لنا رددناها عليكم أوفر ما كانت وأضعافًا معًا ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ﴾ (آل عمران: 169-170)
أخي الحبيب.. وختامًا أذكرك بأنه إذا غرست شجرة المحبة في القلب، وسقيت بماء الإخلاص ومتابعة الحبيب أثمرت أنواع الثمار. وآتت أكلها كل حين بإذن ربها. أصلها ثابت في قرار القلب. وفرعها متصل بسدرة المنتهى وأنه لا يزال سعي المحب صاعدًا إلى حبيبه لا يحجبه دونه شيء ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾ (فاطر: 10) جعلني الله وإياك من المحبين المخلصين.
وإلى رسالة قادمة إن شاء الله تعالى.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل