العنوان أن قوما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر فكفروا!
الكاتب محمد سلامة جبر
تاريخ النشر الثلاثاء 05-سبتمبر-1972
مشاهدات 24
نشر في العدد 116
نشر في الصفحة 16
الثلاثاء 05-سبتمبر-1972
قيل للفضيل بن عياض ألا تأمر وتنهي؟
فقال «إن قوما أمروا ونهوا فكفروا»
قال الإمام الغزالي «وذلك أنهم لم يصبروا على ما أصيبوا» الأحياء حـ ٢ ص ٣٠٨
فإن قيل أحق ما يقول ابن عياض؟
قلت إي وربي أنه لحق ولكن كثيرًا من الناس لا يعلمون ذلك إنها كلمة صدرت عن حكيم، وكلام الحكماء أبدًا دقيق المعنى بعيد المرمى عميق الأصول يعرفه من عرف وينكره من جهل ولتعلمن نبأه بعد حين فإن قلت بين فإني لا أكاد أفهم
أقول سأبين إن شاء الله مستعينًا بالله غير أني أريد منك حسن الإصغاء وترك اللجاجة والمراء فما نحن فيه أرفع من أن تحتكم فيه الأهواء أو تتعدد في فهمه الآراء
إنه دين الله ومن أحدث في ديننا هذا ما ليس فيه فهو رد هكذا قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكذلك فافعل بقولي وقول غيرى كائنًا من كان إن وجدته مخالفًا لكتاب الله وسنة رسول الله، ومن ادعى دعوى فعليه الدليل ومن تزعم رأيًا فليأت بالبرهان وإلا فهو رد عليه ولا كرامة.
إذا تقدم هذا فلنناقش صحة دعوى الفضيل «أن قوما أمروا ونهوا فكفروا»
والنظر في هذه الدعوى من وجهين
أ - وجه إلى الشرع.
ب - ووجه إلى الواقع المؤيد لما ورد بالشرع.
أ ـ النظر في الدليل الشرعي.
جاءت الشريعة بأوامر ونواه ربما أسهبت في بعضها فظن طائفة من خيار الناس أن المبالغة محمودة والإفراط مطلوب والزيادة عن حد الاعتدال أمر مرغوب
وأدرك حكماء الأمة - وهم دائمًا قلة - أن مقصود الشارع إنما هو الوسط وأنه ما طلب الأقصى إلا ليقاوم حدة الطبع وغلبة الهوى وأنه ليس أسوأ من التفريط إلا الإفراط ولا أشر من الجبن والانخلاع إلا التهور والاندفاع، والمحمود ما بينهما وهو «الشجاعة»
﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ (البقرة ١٤٣)
والفضائل دائمًا وسط بين رذيلتين هما طرفا الإفراط والتفريط
فالشجاعة وسط بين الجبن والتهور، والكرم وسط بين البخل والإسراف، والحكمة وسط بين الحمق والمكر، والعفة وسط بين الشره والبرود وهكذا...
ولقد سلك بعض الصحابة رضوان الله عليهم سبيل التشدد أو هموا بأن يسلكوه فنهاهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وردهم إلى حد الاعتدال.
وما روى من ذلك أشهر من أن يذكر غير أني سأذكر بعض أمثلة للذكرى
● فأولًا ورد في فضل الجهاد في سبيل الله من الآيات والأحاديث ما يجعل المؤمن يتعطش إلى لقاء العدو ويتلهف شوقًا إلى مجاهدته وفي بعض الغزوات انتظر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى مالت الشمس فقام في أصحابه قائلًا «يا أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف» متفق عليه
● ثانيًا ربما سمع بعض الصحابة قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- «إذا أراد الله بعبد خيرًا عجل له عقوبة ذنبه في الدنيا» فيتمنى أن يكون ذلك الرجل وقد روى الترمذي بسند حسن أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سمع رجلًا يقول «اللهم إني اسألك الصبر فقال له «لقد سألت الله البلاء فسله العافية» وسمع عليًا -رضي الله عنه- يقول «فإن كان بلاء فصبرني» فضربه برجله وقال «اللهم عافه واشفه» رواه النسائي بسند صحيح
● ثالثًا وربما ظن كثير من الناس أن الإسراف في العبادة أمر محمود لعظيم ما ورد فيها من ترغيب وقد روى البخاري أن ثلاثة رهط جاؤوا إلى بيوت أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- يسألون عن عبادته فلما أخبروا بها كأنهم تقالوها وقالوا أين نحن من النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر قال أحدهم أما أنا فأصلي الليل أبدًا وقال آخر وأنا أصوم الدهر ولا أفطر وقال آخر وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إليهم فقال « أنتم الذين قلتم كذا وكذا أما والله إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له لكنى أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني »
وقد دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المسجد فإذا حبل ممدود بين الساريتين فقال «ما هذا الحبل قالوا هذا حبل لزينب فإذا فترت تعلقت بـه فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- «حلوه ليصل أحدكم نشاطه فإذا فتر فليرقد» متفق عليه
وروى مسلم عن ابن سعود -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال «هلك المتنطعون هلك المتنطعون هلك المتنطعون» قال النووي في غير موضع التشديد.
المتنطعون: المتعمقون المشددون
الأمر والنهي
فان قلت:
هذا الذي ذكرت واضح في بابه فماذا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
أقول أحسنت يا أخي فاسمع مني يرحمك الله.
ليس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الأمور التي يختلف فيها اثنان
فوجوب الأمر بالمعروف ظاهر غير أن الأدب فيه أوجب، والنهي عن المنكر لازم ولكن الرفق فيه ألزم، والدعوة إلى الله حتم مفروض غير أنا لحكمة فيها أشد حتمًا وأعظم فرضًا.
«من أمر بمعروف فليكن أمره بمعروف» هكذا قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه البيهقي.
وإلا تفعلوا وتلتزموا بأدب الأمر والنهي والدعوة إلى الله تكن فتنة في الأرض وفساد كبير فإن قومًا أمروا ونهوا فكفروا ذلك أنهم لم يصبروا على ما أصيبوا
وقال الإمام الغزالي رحمه الله «ويدل على وجوب الرفق ما استدل به المأمون إذ وعظه واعظ وعنف له في القول فقال المأمون يا رجل ارفق فقد بعث الله من هو خير منك إلى من هو شر منى وأمره بالرفق فقال تعالى ﴿فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ﴾ (طه ٤٤)
فكان المأمون أفقه من الداعية وكم فينا مثله
وعن أبي أمامة -رضي الله عنه- أن غلامًا شابًا أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال يا نبي الله أتأذن لي في الزنا فصاح الناس به فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- قربوه أدن فدنا حتى جلس بين يديه فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- أتحبه لأمك قال لا جعلني الله فداك قال كذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم أتحبه لابنتك قال لا جعلني الله فداك قال كذلك الناس لا يحبونه لبناتهم أتحبه لأختك
قال لا جعلني الله فداك قال كذلك الناس لا يحبونه لأخواتهم فوضع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يده على صدره وقال «اللهم طهر قلبه وأغفر ذنبه وحصن فرجه» فلم يكن شيء أبغض إليه من الزنا. رواه أحمد بسند جيد
هذا هدى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكم منا من يهتدى بهديه.
بلغ من رفق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأصحابه أن صالح قبائل غطفان على ثلث ثمار المدينة ليسحبوا جيوشهم عن حصارها في معركة الخندق فلما كلمه أصحابه في ذلك قال «رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة فأردت أن أخذلهم عنكم» قالوا «والله ما أخذوا منا ثمرة ونحن في الجاهلية أفبعد أن أعزنا الله بالإسلام نعطى الدنية في ديننا هذا لا يكون»
ولم يكن شيء أحب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من رؤية هذا الثبات في أصحابه ولم يكن باعثه لما فعل إلا ما وصفه الله به من كريم الصفات ﴿عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ﴾ (التوبة 128)
اي يعز عليه ما يشق عليكم ﴿حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾
(التوبة 128)
صلى الله عليك وسلم وجزاك عنا خير ما جزى نبيًا عن قومه ورسولًا عن أمته فلقد كنت بالمؤمنين رؤوفًا رحيمًا
فيا ليت قومي يفقهون. ليتهم يفقهون أن المنبت لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى
وليتهم يدركون أن من احتمل الأمر كله يوشك أن يدعه كله، وليتهم يعرفون أنهم ليسوا خيرًا من موسى وهارون وليس الناس بشر من فرعون وهامان وقارون، وليتهم يصدقون أن قومًا أمروا ونهوا فكفروا، ذلك أنهم تجاوزوا الحد فأسرفوا وما غفروا
فأصيبوا من قومهم بجهلهم بفتنة عمياء فانهاروا وما صبروا فكفروا.
وصدق الفضيل «إن قوما أمروا ونهوا فكفروا»
وصدق الغزالي «وذلك أنهم لم يصبروا على ما أصيبوا»
وصدق الله العظيم ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ۖ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ۚ أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ (البقرة ٢٨٦)
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل
انظر إلى آثار رحمة الله - هذا التعليل لخلفية أفكار سيد ليس صحيحًا
نشر في العدد 102
33
الثلاثاء 30-مايو-1972